إن أكثر ما يؤرقنى أن كثيرًا من آرائنا التى تتشكل منها مواقفنا- قائمٌ على ملاحظات عامة ومشاعر انطباعية على نحو يجعل للشخصنة تأثيرًا كبيرًا فى الأمر الذى قد يؤدى إلى التعميم بكل مخاطره؛ فنحن لا ندقق فى الأحداث، ولا ندرك حجم ما نقع فيه من أخطاء نتيجة التعميم الذى يشكل عبئًا على التحليل الموضوعى، ويؤدى بنا إلى إطار مختلف. كما أن التعميم لا يقف عند الأوضاع الداخلية، بل يتجاوز ذلك إلى العلاقات الدولية. فنحن نقول- مثلًا- الألمان أمة منضبطة، تعشق النظام، وتتمسك بالأطر السليمة فى المناسبات المختلفة، ومع ذلك فإننى أزعم أن هناك منهم ما هو على خلاف ذلك؛ فالتعميم بمعيار الأغلبية لا يكون عادلًا. ونتحدث عن اليابانيين أنهم شديدو الأدب، حريصون على احترام الآخر، ومع ذلك فقد نرى يابانيًا شرسًا يخرج عن القاعدة. والبريطانيون شعب عميق الرؤية بعيد النظرة، ولكن ذلك لا ينفى وجود البعض منهم ممن يطفحون سذاجة، ويكونون خارج السياق.
وإذا كان المصريون معروفين بالذكاء الحاد لدرجة (الفهلوة) التى لا يوجد لها ترجمة بكلمة وحدها فى اللغات الأجنبية لأنها غالبًا (صناعة مصرية)، وإن كنت أراها مزيجًا من الذكاء والرغبة أحيانًا فى خداع الغير- فإننى أعرف نماذج مصرية تتفوق على الألمانى فى شدة التنظيم، وتتقدم على اليابانى بمزيد من الأدب، وتبدو أكثر عمقًا من البريطانى بدهائه وتراكم الخبرات التاريخية لديه.
فالتعميم خطيئة كبرى نقع فيها دائمًا، وهناك من قال إن العرب ظاهرة صوتية، وقد يكون ذلك قولًا مقبولًا فى مجمله لدى البعض، ولكن البناء عليه يؤدى إلى نتائج كارثية، تتمثل فى حالة من الإحباط والاستسلام للواقع والعزوف عن التغيير، ولعلى أطرح هنا ملاحظتين:
أولهما- ليس صحيحًا أن هناك جينات ذكية وأخرى غبية؛ فالإنسان ابن بيئته ونتاج طبيعى للمناخ الذى تربى فيه، وفى ظنى أن كل شىء يأتى بالتدريب كما أن مستويات الذكاء بين البشر ليست متفاوتة بدرجة واسعة، فالعبقرية استعداد وجهد وعمل والتخلف استسلام ولا مبالاة وتواكل، ولم يثبت علميًا حتى الآن أن هناك سلالات أذكى من غيرها.
وقد يتحدث البعض- على سبيل المثال- عن أسطورة (شعب الله المختار) والجواب فى الحال هو أن شهرة اليهود جاءت نتيجة التعود فى الحرص على المال وإدارته والتفكير العلمى وصياغته، فكانت الصورة النمطية فى النهاية هى ما نراه، وكما أنه لا توجد دماء نقية، فإنه لا توجد أيضًا سلالات بشرية أو أجناس تعيش بمقومات تختلف عن غيرها، ولعل الذى يدعم وجهة نظرنا هذه هو أن هناك شعوبًا شقت طريقها من أشد درجات التخلف لتحلق فى آفاق التقدم على نحو لم يكن متوقعًا منها، والسبب ببساطة أن تلك الشعوب قد عملت بجدية، ولم تستسلم للواقع ومشكلاته القائمة.
ثانيًا- إن الله خلقنا جميعًا من نقطة بداية واحدة، ولكن الظروف التى يحيا فيها كل منا هى التى تتشكل بها شخصيته، ويتحدد معها مساره، وكثيرًا ما نقول إن إنسانًا قد ولد وفى فمه ملعقة من ذهب، وآخر ولد ليرتدى ملابس ممزقة وبالية منذ لحظة البداية، ولقد حاربت الأديان السماوية هذه النظرة، بحيث تكون نقطة البداية متساوية للجميع.
ألم يقل الحق- تبارك وتعالى-: «وإبْرَاهِيمَ الذِى وَفَّى. ألَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى».
ولذلك فإننى أدعو الشباب ومن هم فى مقتبل العمر عمومًا إلى:
أن يرفضوا الأحكام الجاهزة والأفكار المعلبة.
وأن يدركوا أن ميدان التنافس مفتوح مهما تشتد الصعاب وتبلغ العقبات.
وسوف يكتشفون دائمًا أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
وأن قوانين الحياة ونواميس الوجود كفيلة دائمًا بأن يسترد كل من أعطى جزاء جهده وخبرته وفهمه للمتغيرات.
إننى أدعو إلى مزيد من الموضوعية فى كل قراراتنا، وإلى استبعاد الآراء الانطباعية والمواقف المتسرعة؛ ففى الدنيا متسع لى ولك وللآخر ولغيرنا، مهما بدت الصورة معقدة والخريطة البشرية متشابكة.
ولا مجال للتعميم؛ فالتنوع من سنن الوجود وخصائص الحياة.
جريدة المصري اليوم
24 أكتوبر 2018
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1336342