لو أن الله جعل النسيان أمرًا غائبًا من حياتنا لاستبدت بنا الأحزان وما استطعنا أن نخرج من دائرتها إلى الحياة العادية، فكل امرئ فى ماضيه بؤر حزينة وذكريات أليمة تطفو على السطح من حين إلى آخر ولكنها تظل دائمًا كامنة فى الأعماق قد لا تبرحها حتى لحظة الموت، وفى اللحظات الأخيرة من الحياة يرتد الإنسان إلى طفولته الباكرة وقد ينادى أباه أو أمه اللذين قد رحلا منذ سنوات عديدة، بل لقد قيل إنه إذا تعلم شخص لغات متعددة فإنه عندما يتألم من مرض النهاية سوف يشكو بلغته الأصلية، وفى لحظات الرحيل سوف تكون كلماته أيضًا بلغته الأم، والأوطان كالإنسان لديها جروح لا تندمل وأحزان لا تغيب والوطن المصرى يتذكر فى لحظات فارقة من عمره توافد الغزاة والطغاة والبغاة ويتذكر النكبات والنكسات والأزمات، إنه الشعب الذى عرف سنوات (الشدة المستنصرية) التى جاع فيها الناس وأكل بعضهم لحوم البشر، وهو ذات الوطن الذى ألهبت ظهور فلاحيه أسواط سماسرة السخرة فى حفر قناة السويس، والملاحظ هنا أن الإنشاءات الثلاثة الكبرى فى تاريخنا قد تمت بيد المصرى البسيط بدءًا من بناء الأهرامات والمعابد مرورًا بحفر قناة السويس وصولًا إلى السد العالى، أتذكر الآن فلاحى «دنشواى» وهم يصعدون إلى طبلية الإعدام العلنى فى قراهم وأتذكر دماء شهدائنا فى كل حروبنا المشروعة من أجل الاستقلال والسيادة والاستقرار، وأتذكر أيضًا بحزن غامر رقبتى «خميس» و«البقرى» معلقتين فى ميدان شركة الغزل والنسيج بكفر الدوار، بل وأتذكر أيضًا شهداء الرأى فى حياتنا بدءًا من «محمد كريم» فى الإسكندرية مرورًا بـ«شهدى عطية» فى سجن القاهرة وصولًا إلى الشرفاء ممن سقطوا فى ثورات الشعب المصرى الأخيرة، مالى أتذكر كل ذلك الآن؟ هل أريد أن أنكأ جراحًا قديمة أم ترانى أجتر أحزانًا سابقة ولكننى مؤمن أن الدنيا لا ترحم وأن الحياة أخذ وعطاء أو هى سلف ودين، لقد كان توترى وأنا أرى اللحظات الأخيرة على شاشات التلفاز من إعدام «صدام حسين» وقوته وجسارته ومتانة أعصابه فأتذكر أيضًا من قتلهم ومن شردهم ومن عذبهم وأردد (ولكم فى القصاص حياة يا أولى الألباب)، فالدنيا يوم لك ويوم عليك لأنك (لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولًا) إننى أريد أن أقول فى هذه الأيام التى تواجه فيها المنطقة تيارات عاصفة ورياحا شديدة وأنواء لا تتوقف، أقول إننا فى «مصر» نبدو أحيانًا وكأننا محمية الله فى أرضه برغم كل ما عانينا وما واجهنا وما تعرضنا له ولكن تبقى إرادة الحياة لدى شعب صنع الحضارات وزامل التاريخ فى طفولته وعشق الدنيا بفطرته ولكنه خشى الآخرة بطبيعته فكان أول من أدرك التوحيد وأول من احتضن الديانات السماوية وركع لله الواحد الأحد، إن وطنًا كهذا يجب أن يدرك أبناؤه أنه لن يسقط أبدًا، فمصر عصية على الانهيار، متماسكة بطبيعتها، متلاحمة بالجغرافيا، متضامنة بالتاريخ، ومهما شهدت «مصر» من عجائب وغرائب وما تعرضت له من مشكلات وأزمات إلا أنها الصامدة أبدًا الشامخة دائمًا، وليسمح لى القارئ أن ألفت النظر إلى ملاحظات ثلاث:
أولًا: إن «مصر» بلد يستثير الغيرة رغم ظروفه الاقتصادية وأوجاعه الاجتماعية، ولكنه يظل دائمًا موضع الحسد لأنه بلد الأهرامات والمعابد والأزهر الشريف والمساجد والكنيسة القبطية والأديرة، بلد قناة السويس والإطلالة على البحرين الأبيض والأحمر، بلد الأدب الرفيع والفن الأصيل، وطن «رفاعة الطهطاوى» و«محمد عبده» و«طه حسين» و«العقاد» و«سلامة موسى» و«الحكيم» و«لطفى السيد» و«جمال حمدان»، بلد «أم كلثوم» و«عبدالوهاب» ومعهما كل الذين زحفوا بالفن من الدلتا والصعيد نحو العاصمة أو من جاءوها من أطراف الأمة العربية شرقًا وغربًا، ألا يستثير بلد كهذا الحسد؟!
ثانيًا: إن «مصر» بلد فيه خاصية غريبة، فهو يتماسك عند الشدائد ويلتحم أمام الخطوب، ولنتذكر الآن ما حدث بين نكسة 67 وانتصار 73 وحرب الاستنزاف الظافرة التى روت فيها دماء المصريين كل بقاع الوطن حبًا له وعشقًا لترابه، هل حدثت أزمة تموينية أو اختناق سلعى أثناء معارك أكتوبر المجيدة؟.. لم يحدث ذلك.
ثالثًا: إن الشعب المصرى يبدو أحيانًا طيعًا سهل القياد ولكن فى حقيقته قوى شديد المراس لديه مخزون حضارى يرتد إليه فى الأوقات الصعبة ويجعله يتصرف فى تحضر وكبرياء وأحيانًا بصمت الأوفياء لأنه ينتمى إلى البلد الذى لاذ به السيد المسيح عليه السلام، وأوى إليه أهل البيت على نحو غير مسبوق بين الدول الإسلامية حتى قال بابا الكاثوليك فى زيارته الأخيرة: «لقد جئت مصر حاجًا قبل أن أكون زائرًا».
إننى مؤمن بأن «مصر» تملك شعبًا أصيلًا يؤمن بالقدوة ويمضى وراءها عن اقتناع، ويرفض الاستبداد ويلفظ الفساد ولكنه يملك طاقة كبيرة على النسيان وربما الغفران!
جريدة المصري اليوم
27 يونيو 2017
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1154654