يحفل التاريخ السياسى بخفايا ليست فى الحسبان، كما أن معرفتها يمكن أن تُحيل بعض الساسة والحكام إلى خونة وفاسدين، رغم أنهم كانوا يتمتعون بتعاطف شعبى فى عهودهم، فالمسألة دائماً أنه لا يمكن القطع عند تقويم الأحداث التاريخية لكى نقف عند أحد اللونين الأبيض أو الأسود، فالأمر يتجاوز ذلك إلى أهمية التنقيب فى «تاريخ ما أهمله التاريخ»، ولقد قيل مؤخراً- على سبيل المثال- إن «إدوارد الثامن»، ملك بريطانيا العظمى، الذى تنازل عن العرش ليتزوج المطلقة الأمريكية «ليدى سمبسون»، كان عميلاً للنازى وعلى اتصالات سرية بـ«أدولف هتلر»، ومثل هذا الأمر يقلب الحقيقة رأساً على عقب، ويجعلنا أمام ملك عميل ضد مصالح بلاده مع دولة خصم، حيث كان التنافس بين ألمانيا وبريطانيا سياسياً وعسكرياً واقتصادياً فى أعلى مراحله، فإذا سمح ملك البلاد بالتواصل مع (الرايخ الثالث) فإننا نكون أمام انفجار عظيم فى المسار السياسى وفى فهمنا للأدوار المختلفة لأصحاب القرار فى أوروبا الحديثة، بحيث يتحول «إدوارد الثامن» من ملك تتحكم فيه عواطفه إلى عميل تحكمت فيه نوازعه، ولقد عاش الرجل طويلاً فى منفاه الاختيارى هو وزوجته الأثيرة فى باريس، ولكن ما نُشر فى السنوات الأخيرة عن علاقته الوثيقة بـ«أدولف هتلر» يمكن أن يقلب الأمور رأساً على عقب، ويلقى بظلال ثقيلة على العائلة المالكة فى بريطانيا، ويعزز بعض الشائعات المرتبطة بهذا الموضوع، والتى قد يكون فيها افتراء تاريخى، ولكن الأمر الذى لا جدال فيه أن مثل هذه المعلومات تحتاج إلى التمحيص حتى لا نقذف بالأبرياء فى أتون العمالة ومستنقع الخيانة بلا سند أو دليل، فإذا انتقلنا إلى المنطقة العربية فإن هناك مَن يزعم أن الأمير «عبدالإله»، الذى كان وصياً على العرش فى العراق، حين كان الملك «فيصل الثانى» تحت الوصاية، قد ترددت حوله معلومات مؤخراً بأنه كان على صلة وثيقة بالرئيس عبدالناصر، وكان يوافيه بتقارير سرية عن الأوضاع بالعراق، وما أكثر ما هو متناثر فى صفحات التاريخ حول شخصيات أخذت دور البطولة على المسرح السياسى، بينما كانت لهم اتصالات سرية وارتباطات غير معلنة بقوى أخرى قد تناقض تماماً الصورة التى ظهروا بها والتأثير التاريخى الذى استفادوا منه.. من هنا فإن كتابة التاريخ بتجرد وأمانة هى مسؤولية إنسانية تتحملها الأجيال من أجل مستقبل أفضل ولمصداقية ما يتردد فى أروقة الماضى ودهاليزه، فالدنيا ليست على وتيرة واحدة، كما أن للحدث الواحد أكثر من وجه، وما أسهل التخوين وما أسرع الإدانة، بينما نحتاج عند كل خبر خطير إلى وثيقة مؤكدة، ولا يمكن الاعتماد على الانطباعات العامة أو الشائعات التاريخية أو حتى المعاصرة.
إن أكاذيب الماضى كثيرة صنعها التواتر وانتقال المعلومة من عصر إلى عصر بشىء من التحريف الظالم، فلقد كان الشيخ «أمين الحسينى»- مثلاً- الزعيم الفلسطينى الراحل، متعاطفاً مع الألمان فى الحرب العالمية الثانية، ولكن لم يكن عميلاً لهم، بل كان يأمل أن يستعين بهم ضد الإنجليز فى ذلك الوقت، ولماذا نذهب بعيداً؟!، لقد كان «أنور السادات» مدفوعاً بوطنيته نحو شىء من ذلك، فى وقت كانت فيه شعبية هتلر كاسحة، حتى إن بعض المصريين كانوا يطلقون عليه الحاج «محمد هتلر»
إن التاريخ- أيها السادة- يحتاج مراجعة أمينة، وأرشيفنا الوطنى أكثر حاجة لذلك الأمر، فتلك مسؤولية مؤسسات متعددة، تقع فى مقدمتها مكتبة الإسكندرية، ونحن ملتزمون فيها بالمصداقية الكاملة والأمانة المطلقة، فالتاريخ مِلْك للشعوب، وليس ألعوبة فى أيدى بعض المؤرخين.
جريدة المصري اليوم
13 يونيو 2018
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1299786