فى أجواء «حى الحسين»، وأمام مسجده الذى يؤمه الناس من كل حدب وصوب، اتفق ثلاثتنا- العالِم الراحل «أحمد زويل» والشاعر الكبير «فاروق جويدة» وأنا- على أن نلتقى فى أمسية بالقاهرة الفاطمية، فاجتمع شملنا ونحن أبناء محافظة واحدة وعشنا مراحل التعليم المختلفة فى مدينة «دمنهور» عاصمة «البحيرة»، وقد كانت أمسية لا أنساها مع أقداح الشاى وأجواء ليل «القاهرة» بسحرها وروعتها وصوت «أم كلثوم» يصدح، فنطرب لها ونكاد نغنى معها، ويومها تحدث الشاعر الكبير عن «مصر» ومستقبلها وهمومها، فلقد كانت السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق «مبارك» تثير تساؤلات حول القادم الجديد لحكم البلاد، وهل توريث السلطة لابنه أمر يمكن أن يمر فى «مصر»؟! وهنا سألت العالِم الكبير، الذى كانت تبدو لديه اهتمامات سياسية واضحة، فأجاب: أنه يريد الإسهام فى بناء «مصر»، لا فى حكم «مصر»، وأردف أنه يحمل جنسية أجنبية لا تسمح له بالتطلع إلى المشاركة فى السلطة المصرية، وأضاف أنه بدأ يشعر بحساسية من بعض المسؤولين تجاهه من هذه الزاوية، حيث يتصورون أن له طموحات سياسية فى المستقبل، وأضاف أنه حريص على أن يأتى لـ«مصر» مرة كل عام لمتابعة مشروعه العلمى ولزيارة والدته قبل رحيلها، وهنا قلت له إن البعض يقيس على ما حاولت أن تفعله «إسرائيل»، فى مطلع خمسينيات القرن الماضى، وبعد سنوات قليلة من قيامها بدعوة العالِم اليهودى «أينشتين» ليتبوأ منصب رئيس الدولة العبرية للإفادة من مكانته الدولية وقيمته العلمية فى إضفاء منزلة رفيعة على المنصب الأول فى «إسرائيل»، وقد توهم بعض المسؤولين المصريين القريبين من مؤسسة الرئاسة أن «أحمد زويل» يتطلع إلى دعوة مماثلة لتلك التى فكرت فيها «إسرائيل» عندما دعت «أينشتين» لتولى رئاسة الدولة ولكنه اعتذر عن ذلك، وذكَّرت العالِم الجليل والشاعر الكبير بالهتافات المدوية فى «دار الأوبرا المصرية» عندما كان يلقى «زويل» محاضرة عامة حضرها مئات من الشباب، فإذا بهم يرددون هتافًا مدويًا: (زويل رئيس مصر)، ويومها شعر صديقنا بالسعادة والحرج فى وقت واحد، واضطر ذات مرة أن يلغى زيارته السنوية نتيجة ارتفاع درجة الحساسية منه لدى بعض المسؤولين فى «القاهرة»، وتكرار الحديث عن طموحاته مقترنًا بإشاعة حكاية غرامه بالإعلام وسعيه لإبداء رأيه فى القضايا المصرية العامة، وهنا تدخل الشاعر الكبير قائلًا له: يا «أحمد» إن قيمتك أنك لست عالِمًا رفيع القدر فقط ولكنك أيضا مفكر من الوزن الثقيل، وعندما تجتمع فى شخص واحد صفتا العالِم والمفكر فإن من الطبيعى أن يُقلق ذلك مَن حوله، وكان «زويل» قد تلقى إشارات متتالية فى هذا السياق، فبعد أن أبلغه رئيس وزراء مصر الراحل د. «عاطف عبيد» بأنه تقرر تخصيص استراحة «قناة السويس» فى «القاهرة» مقرًا لمكتبه فى عاصمة بلاده، وهى التى كان يقيم فيها رئيس وزراء «مصر» الأسبق «ممدوح سالم»- رحمه الله- فإذا بالقرار يتغير ويتحول إلى عدة حجرات فى مبنى فى شارع «حسن صبرى» بـ«الزمالك»، وهنا أدرك «زويل» أن النوايا ليست خالصة، وأن الترحيب به حذر ومحسوب، ولقد امتد بنا حديث الأمسية فى تلك الأجواء المصرية الخالصة التى يتجسد فيها عبق المكان وذكريات الزمان لنتحدث عن هموم المصريين وشواغل الوطن الداخلية والخارجية، ويومها قال لنا «زويل»: إن قضية البحث العلمى تحتاج إلى عقل وإرادة قبل الإمكانات والأموال، وأضاف: أن الشباب فى «الولايات المتحدة الأمريكية» يلتقون فى جلسات علمية داخل جراجات العمارات لتطوير جهاز معين أو استحداث معادلة رياضية، فالبحث العلمى استعداد ورغبة قبل أن يكون وظيفة أو مهمة، وكان العالِم الكبير يعبر عن قلقه لتدهور التعليم المصرى ويقارن ذلك بما كانت عليه كلية العلوم بـ«جامعة الإسكندرية» فى منتصف ستينيات القرن الماضى، وهو يجتر ذكرياته فى «مصر» ومدارسها وجامعاتها حينذاك، ولقد أثرى الجلسة الشاعر «فاروق جويدة» بنظرات تأملية وعبارات شاعرية وأفكار علمية، إذ إنه قبل أن يكون شاعرًا كبيرًا، فهو كاتب صحفى مرموق تخصص لسنوات فى الشؤون الاقتصادية، وقد حكى لنا «زويل» كيف التقى زوجته السورية، ابنة العالِم اللغوى الكبير، الدكتور «الفحام»، عند تسلمه جائزة «الملك فيصل» فى الآداب، فى نفس السنة التى كان يتسلم فيها الدكتور «زويل» ذات الجائزة فى العلوم، ومنها أنجب ولديه، وقد حكى لى الدكتور «زويل» فى جلسة خاصة أثناء آخر زيارة له فى «مصر»، بعد شفائه من محنة المرض اللعين، أن زوجته الفاضلة قضت أسابيع طويلة تجلس على مقعد أمام فراشه طوال الليل لتعطيه جرعات الأدوية فى أوقاتها، وفاءً والتزامًا لأنها ابنة بيت عريق، وقد قابلت- شخصيًا- والدها، رحمه الله، فى مطار «دمشق»، منذ عدة سنوات، ولم أكن أعرفه شكلًا، ولكن الرجل تعرف علىَّ فى «قاعة الشرف»، ودار بيننا حديث طويل كان محوره صديقنا وزميل دراستنا الذى يرتبط بمصاهرة مع د. «الفحام»، وزير التعليم السورى الأسبق، رئيس المجمع اللغوى فى «دمشق»، قبل رحيله بسنوات قليلة.
تلك خواطر أثارتها لدىَّ ذكريات أمسية قضيتها مع عالِم جليل وشاعر كبير، ارتبطت بهما فى رحلة العمر زمالةً وصداقةً ومودة.. رحم الله «أحمد زويل»، الذى كان «أيقونة» مصرية فى المحافل الدولية، لأن الحصول على جائزة «نوبل» فى العلوم أمر شديد الصعوبة، بالغ التعقيد، كما أن تلك الجائزة تفرض على صاحبها أن يكون منفتحًا على العالم بلا استثناء، «فالعالم له وطنه ولكن العلم لا وطن له»، إننى أنادى صديقنا بعد رحيله، مرددًا قول الشاعر:
يا صَبَّ «مصر» يا شهيد غرامها هذا ثرى «مصر» فَنَمْ بأمان!
جريدة المصري اليوم
9 أغسطس 2016
https://www.almasryalyoum.com/news/details/991858