وأنا طالب فى السنة الرابعة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وبينما كنت فى أحد مدرجات الكلية مستمعًا للمحاضرة الصباحية الأولى دق باب «المدرج الصغير» ضابط حرس الكلية، واستأذن الأستاذ المحاضر فى أن أخرج إليه لأمر مهم، وأبلغنى قائد الحرس أن الدكتور «حسين كامل بهاء الدين»، أمين الشباب، يريد أن يتحدث إلىّ لأمر مهم، وبالفعل جرى الاتصال به من مكتب قائد الحرس، وكان ذلك فى أحد أيام شهر فبراير عام 1966، وكنت رئيسًا لاتحاد طلاب كلية الاقتصاد، وقال لى الدكتور «حسين كامل بهاء الدين» إن نائب رئيس الجمهورية، وأمين عام الاتحاد الاشتراكى العربى، السيد «على صبرى»، ينتظرنى فى مكتبه بمبنى الاتحاد الاشتراكى على ضفاف نيل «القاهرة» بميدان التحرير فى الثانية عشرة ظهرًا، وكنت قد أنهيت المرحلة الأولى من التدريب بالمنظمة فى صيف عام 1965، حيث كان الموجه السياسى لمجموعتى هو الأستاذ «عبدالغفار شكر»- أطال الله فى عمره- وكان من رفاق المرحلة «أحمد يوسف أحمد» و«أسامة الغزالى حرب» و«عثمان محمد عثمان» و«منى صلاح ذوالفقار»، وكانت علاقتى بالدكتور «حسين كامل بهاء الدين» وثيقة شأن عدد من الطلاب البارزين فى ذلك الوقت، وكان هو أمين الشباب وقتها شاباً وسيماً يعمل مدرساً بكلية الطب جامعة القاهرة فى قسم الأطفال، وهو مصرى رائع وطنيًا ودينًا وخلقًا من أب مصرى صميم وأم تنحدر من أصول فرنسية، وقد كان وقتها يمضى فى إجراءات زواجه بزميلة بالكلية تسبقنى بعامين وتنتمى لعائلة صعيدية عريقة من محافظة «أسيوط» وكانت معروفة بالتفوق العلمى، والالتزام الخلقى حتى اختارها جهاز المخابرات المصرية لكى تكون واحدة من خبرائه المتخصصين فى الشؤون السياسية والعلاقات الدبلوماسية، وعندما دخلت إلى مكتب سكرتير نائب رئيس الجمهورية، وكان اسمه على ما أتذكر الأستاذ «جمال عرفى» اقتادنى فى هدوء إلى باب داخلى وفتحه لأجد نفسى وأنا الطالب الجامعى ابن الحادية والعشرين وجهًا لوجه مع الرجل الذى أرى صورته فى الصحف باعتباره زعيم الجناح اليسارى فى العصر الناصرى، والأقرب إلى القيادة السوفيتية، والذى يعاديه جناح آخر من التيار اليمينى الذى يقوده عضو مجلس قيادة الثورة البارز والأخطر والأقوى السيد «زكريا محيى الدين» مدعومًا بتيار فكرى يقترب من السياسة الغربية حينذاك، ويمثله الكاتب الكبير الراحل «محمد حسنين هيكل»، وكانوا جميعًا قريبين من «عبدالناصر» الذى كان يستخدم مراكز القوى مستغلًا صراعها فى إحداث التوازن فى مواجهة الجيش الموالى بشدة لقائده العام «عبدالحكيم عامر»، لقد كانت سنوات مشهودة فى منتصف الستينيات بعد سقوط دولة الوحدة مع «سوريا»، وتورط «مصر» فى حرب «اليمن»، والاقتراب من شبح نكسة 1967، لقد قال لى السيد «على صبرى» يومها إنه سعيد بلقائى وإنه سمع مديحًا لى وثناءً علىّ من الدكتور «حسين كامل بهاء الدين»، أمين الشباب، وأتذكر أنه كان من موضوعات الحوار يومها ذلك الانقلاب الذى أطاح بالرئيس «كوامى نكروما» صاحب كتاب «الوجدانية» والثائر الغانى الفيلسوف، والذى كان متزوجًا من سيدة مصرية فاضلة تجعلنا نعتز بوجود ابنه «جمال نكروما» صحفيًا مصريًا ومتزوجًا من سيدة مصرية، بينما اختارت أخته أن تقود معترك السياسة فى «أكرا» وهى تقترب حاليًا من المواقع العليا فى البلاد اعتمادًا على اسم والدها بطل الاستقلال الراحل، كما تطرق حديثى يومها مع نائب رئيس الجمهورية إلى قضية تصفية الإقطاع وبعض الممارسات السلبية فى ذلك السياق، وضرب لى السيد «على صبرى» مثالًا بأسرة إقطاعية من «صعيد مصر» كانت تقطن بجوار مسكنه فى «مصر الجديدة»، مشيرًا إلى أنه من الطبيعى أن تعادى هذه الطبقة ثورة «عبدالناصر» رغم أنه هو شخصيًا ينتمى إلى بيت ثرى من «القنايات» بمحافظة «الشرقية» فقد كان «على الشمسى باشا» هو خاله مباشرة، بينما جاء «عبدالحكيم عامر» من أسرة عريقة من «أسطال» فى محافظة «المنيا»، حيث كان يمت بصلة قرابة وثيقة بالفريق «محمد حيدر باشا» وكان «عبداللطيف البغدادى» هو ابن عمدة «شاوه» قرب «المنصورة»، بينما كان «زكريا محيى الدين» وابن عمه «خالد»- أطال الله فى عمره- ينتميان إلى عائلة عريقة من «كفر شكر» بالقليوبية، ولكن توجهات «عبدالناصر» الداعية إلى العدالة الاجتماعية والآخذة بنهج اشتراكى عربى مستقل كانت هى التيار الذى توافقت حوله قوى الشعب العاملة وفقًا للثقافة السياسية لتلك الفترة، وقد اختتم السيد «على صبرى» حديثه معى ليبلغنى أنه تقرر ضمى إلى عضوية التنظيم الطليعى (طليعة الاشتراكيين) وأنه سوف تأتينى التعليمات المكملة لهذا القرار السيادى، وعندما عدت إلى كليتى مذهولاً ومزهواً فى نفس الوقت قابلنى مصادفة أستاذى الراحل د. «محمد فتح الله الخطيب»، وكيل الكلية، حيث همست فى أذنه أننى أصبحت عضوًا فى التنظيم الطليعى، فقال لى: وأنا كذلك فى وحدة أساتذة جامعة القاهرة لهذا التنظيم، وقد جرت محاولات معى بعد ذلك لضرب الشخصية الصاعدة والمتميزة فى كلية الاقتصاد من خلال دورى فى المنظمة، وأعنى بذلك محاولة استخدامى لإبعاد زميلى «على الدين هلال» الذى يسبقنى بعامين عن موقعه فى هيئة التدريب بالمنظمة، ولكنى رفضت ذلك تمامًا حبًا فى «على الدين» واحترامًا لقدراته المعروفة لنا جميعًا فضلًا عن أننى لم أسمح لنفسى فى حياتى أن أكون أداةً فى صراع سياسى، كما أننى أرى أن «على الدين هلال» هو (أيقونة) خريجى كليتى، ونصل الآن إلى عنوان هذا المقال، فقد فوجئنا ذات صباح بتعرض الدكتور «حسين كامل بهاء الدين» النجم الوطنى الصاعد، والذى يمثل الجناح اليسارى الذى يقوده الأستاذ «على صبرى»، لحادث صدام سيارته كاد يودى بحياته، وأنه فى المستشفى بين الحياة والموت، وأخذنى الدكتور «عادل عبدالفتاح محمود» أبرز الأمناء العامين المساعدين بالمنظمة، وأمين التنظيم فيها، إلى المستشفى، حيث يرقد أمين الشباب المصاب ورأيته مثخنًا بالجراح مليئًا بالكسور، واستقبلنا الرجل يومها بابتسامته المعهودة محاولًا بث الطمأنينة فى نفوسنا، وجرت همسات فى كل أروقة الدولة أن «حسين كامل بهاء الدين» قد تعرض لمحاولة اغتيال بحادث سيارة مدبر لتصفيته جسديًا والخلاص من الاتجاه المتشدد داخل الاتحاد الاشتراكى، بل القضاء على منظمة الشباب الوليدة فى مهدها، وجرت مياه كثيرة عبر النهر المتدفق، وألحقت فور تخرجى بالمخابرات العامة تحت مسمى «رئاسة الجمهورية»، ولكن عندما ذكرت فى إحدى استمارات التعيين أننى عضو فى «التنظيم الطليعى» جرى إبعادى وتعيينى ملحقًا دبلوماسيًا بوزارة الخارجية فى 8 ديسمبر 1966.
إنها خواطر وذكريات ألحت علىّ ونحن نودع ابنًا بارًا من أبناء «مصر» هو الدكتور «حسين كامل بهاء الدين» الذى كان وزيرًا قديرًا للتعليم وحارب الإرهاب والتطرف، واعتنى بـ«كليات التربية» تحديدًا، وأصدر قرارًا بمنع الضرب فى المدارس، ولقد جاءنى صوته واهنًا فى اتصال تليفونى منذ عدة شهور ليلفت نظرى إلى كتابه الجديد الذى يأخذ فيه بالأسلوب العلمى فى التحليل السياسى، لقد كرّس الراحل العظيم سنوات عمره لرعاية الطفولة وتوجيه الأجيال الجديدة، وكان يحتفظ على تليفونه المحمول بتسجيلات موثقة لمئات الكتب المهمة فى تاريخ الفكر الإنسانى.. لقد فقدت «مصر» وطنيًا بارزًا وعالمًا جليلًا وطبيبًا عالميًا وصل إلى موقع رئاسة «الجمعية الدولية لطب الأطفال» ليلحق بركب رفاقه الذين سبقوه فى الشهور الأخيرة من أمثال «ممدوح جبر» و«إبراهيم بدران» و«محمود المناوى» وغيرهم من قوافل العظام من نبت هذا الوطن المعطاء.. رحمهم الله جميعًا.
جريدة المصري اليوم
2 أغسطس 2016
https://www.almasryalyoum.com/news/details/988286