أدوات الماضى وآليات المستقبل
يثور تساؤل دائم بين فلاسفة التاريخ ومؤرخى الجغرافيا والمعنيين بتطور العلوم الإنسانية بل والتطبيقية حول أهمية المحاور المفصلية فى التاريخ الإنسانى للانتقال من مرحلة إلى أخري، فكما أن اختراع العجلة كان انقلابًا حقيقيًا فى وسائل الانتقال بتحويل الحركة الدائرية إلى حركة أمامية فى ذات الوقت فإن اختراع الطباعة كان نقلة نوعية فى منتصف القرن السادس عشر حيث كان أول الإصدارات هو الكتاب المقدس تيمنًا بالقدرة الإلهية التى تنتقل بالبشرية إلى الأمام، والذى يعنينى هنا هو أن أسجل أن آليات الماضى قد اختلفت بالضرورة عن أدوات المستقبل وليس من شك فى أن المعنيين بدراسة أساليب التطور الإنسانى والانتقال إلى مستويات أرقى فى التفكير البشرى يدركون أهمية هذا النمط من الدراسات الاستشرافية بالنسبة لمستقبل الإنسان على الأرض فى ظل تهديدات خطيرة يتصل بعضها بتغير المناخ، والبعض الآخر بشح المياه، والبعض الثالث بنقص الطاقة فضلًا عن عشرات التهديدات الفرعية التى تؤثر على الحياة فى المستقبل مثل نحر البحار لليابسة، والانفجار السكانى المخيف، وتآكل الموارد الطبيعية مع مر القرون وذلك كله يقتضى تفكيرًا يخرج من دائرة الحاضر لكى نتأمل صفحات المستقبل، ولعلى أطرح هنا بعض التساؤلات:
أولًا: إننى ممن يؤمنون بأن كل كائن يحمل فى داخله عوامل فنائه، لذلك لا يخالجنى شك فى أن البشرية هى الأخرى تحمل فى طياتها عوامل التدهور وأسباب التردى ولا أجازف فأقول ومقدمات النهاية أيضًا، إننى ممن لا يفرطون فى التشاؤم ولكننى أنتمى إلى مدرسة أولئك الذين يفضلون البحث فى المستقبل وفقًا للسيناريو الأسوأ فإذا جاءت الأحداث بشكل أفضل فحبًا وكرامة، أما إذا جاءت فى إطار سلبى فالحيطة لازمة خصوصًا فى إطار البحث العلمى الجاد.
ثانيًا: يتوهم الكثيرون أن التاريخ يعيد نفسه كما هو، وقد يكون ذلك مقبولًا بالنسبة للأحداث ولكنه ليس دقيقًا ولا حتى صحيحًا بالنسبة لتاريخ الأفكار، فالرؤية تتسع والمعرفة تزداد، والملاحظ هنا أنه كلما اتسعت مساحة الرؤية وحجم المعرفة فإن مساحة وحجم المجهول يتزايدان على الجانب الآخر، وقد كان البعض يتوهم أن التقدم فى الاكتشافات والاختراعات ينتقص من حجم ما هو قادم ولكن الأمر المثير للجدل والجدير بالملاحظة هو أننا كلما عرفنا أكثر جهلنا أكثر! وذلك من شأنه أن يجعل مهام الأجيال القادمة أكثر صعوبة وأشد وطأة إذ إن الاكتشافات والاختراعات لابد أن تكون مفيدة وتضيف إلى المسار البشرى جديدًا، كما أن طبيعة المشكلات القادمة تبدو أحيانًا أكثر خطورة من المشكلات التى مضت، ذلك أن المسائل المعقدة فى المستقبل تكون قد تجاوزت حدود المتاح من الحلول فى أزمنة سابقة.
ثالثًا: إن التدافع الذى شهدته دول كثيرة منذ منتصف القرن العشرين نحو الدراسات التطبيقية مع تنامى الوعى بالثورة الصناعية ونتائجها وأهميتها فى الخروج بالاقتصاد الوطنى من أزمته إلى آفاق جديدة قد أدى إلى تراجع أهمية بعض الدراسات النظرية للعلوم الإنسانية، ولم يفطن الكثيرون إلى أن التقدم يعتمد على جناحين أحدهما نظرى والثانى تطبيقى بحيث لا ينهض أحدهما دون الآخر، فإذا كانت العلوم النظرية تصب فى قناة الفكر فإن العلوم التطبيقية تصب فى قناة العلم، والفكر والعلم معًا هما قاطرة التقدم ولا ينبغى الفصل بينهما فى التأثير على الاتجاه إلى الأفضل، وإذا بحثنا فى تاريخ العلماء والمخترعين سوف نكتشف أن هناك خلفية فكرية - وقد تكون فلسفية - هى التى وقفت وراء ما وصلوا إليه وما تحقق على أيديهم للإنسانية كلها، كما أنه لا يكون مفكرًا حقيقيًا ذلك الذى لا يدرك أهمية البحث العلمى فى مسيرة البشرية.
رابعًا: لا يخفى على أحد منا أن الصراعات تملأ الساحة الدولية كما أن الحروب الإقليمية تستنزف جزءًا كبيرًا من إمكانات الإنسان وموارده الطبيعية وذلك يؤثر كله على معدلات النمو بوجه عام، وأنا ممن يظنون أن الحياة هى صراع مستمر يتولد عن المواجهات مع مراحل جديدة فى حياة البشر.
خامسًا: إن تطور أساليب التعليم والانتقال به انتقالات نوعية وفقًا للطفرات التى تحدث فى عالم المعرفة هو أمر أساس فى مسيرة التقدم والانطلاق إلى الأمام، كما أن عملية (التهجين) الحديثة بين علوم مختلفة قد أدى هو الآخر إلى فتح آفاق جديدة لم تكن متاحة من قبل فأصبحت التوليفة العلمية بمثابة عامل جديد يقود نحو زوايا لم تكن مطروقة من قبل، كما أن هناك عاملًا آخر يجب أن نضعه فى الحسبان وهو تقدم الثقافات المهمشة نحو الرقى والرفعة، فالثقافات الآسيوية على سبيل المثال أصبحت تزاحم الآن وبقوة الثقافات الغربية ولم يعد هناك نوع من احتكار المعرفة، فالعقل البشرى مفتوح أمام الجميع،.
سادسًا: إن العلم يحمل فى طياته طرحًا مختلفًا لكثير من المشكلات المعاصرة كما أنه يقدم حلولًا مبتكرة للكثير منها ولكن ذلك أمر لا يمكن التعويل عليه بشكل مطلق، إذ إن هناك أهمية كبيرة لوجود إرادة إنسانية فاعلة تطرق الأبواب وتفتح النوافذ أمام فكر جديد وعقل مختلف ورؤية أوسع.
سابعًا: إن الإنسان كان ولا يزال هو خليفة الله فى الأرض وسيد الكون ولن تكون هناك حدود تمنعه من التقدم فى كل زمان ومكان إلا قيودًا لم نعرفها، فالدنيا حافلة بكل ما هو جديد، كما أن حركة الكواكب هى الأخرى تنذر بتغييرات محتملة تنعكس على الطقس والبيئة وتضعنا أمام مشروع كونى مختلف قد لا نتوقعه.
هذه نظرة مختصرة لأطروحات نظرية لها أهمية كبيرة فى الانتقال من أدوات الماضى إلى آليات المستقبل!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/674499.aspx