كان ذلك فى الأسبوع السابق على عيد العمال مطلع تسعينات القرن الماضى، إذ كانت خطبة الرئيس الأسبق «مبارك» تحتاج إلى عملية تجميع لأوراق ووثائق، فضلاً عن الأرقام والإحصائيات؛ لأن خطاب عيد العمال بالذات كان دائمًا خطابًا له طابعٌ اقتصادىٌّ أكثر منه سياسيًّا، وبدأتُ أجمع المادة التى سوف يُستقى منها الخطاب بصفحاته الكثيرة، فقال لى الرئيس الأسبق «مبارك» إنه يُريدنى أن أُحضر إليه هذه الأوراق مُرتَّبة صباح يوم السبت، وكان ذلك فى مساء الخميس، فعكفتُ على الأمر، وانتهيتُ منه، وكُنتُ مُقيمًا فى منزلى بالمنصورية، وكان الرئيس مُقيمًا فى استراحة الفرسان التابعة لهيئة قناة السويس بالإسماعيلية، ولا أدرى ماذا جرى فى ذلك اليوم؛ فلقد كان المرور صعبًا، والطريق مُزدحمًا، وكان موعدى مع الرئيس فى الثامنة والنصف صباحًا، ووصلتُ إلى استراحة الرئيس فى التاسعة والرُّبع، ولسوء حظِّى علمتُ أن الرئيس قد سأل عنِّى عدَّة مرَّات مُستنكرًا تأخُّرى، فلمَّا وصلتُ طلب أن أُرسل إليه الأوراق فقط، وألا يستقبلنى مباشرةً كنوع من التعبير عن الغضب والرَّفض لما اعتبره تصرُّفًا لا يجوز فى موعد مع رئيس الجمهورية، وربما كان معه الحق فى ذلك، ثم فُوجئتُ به يُقاطعنى ثلاثة أسابيع كاملة ويتعامل معى فقط من خلال الأوراق التى أُرسلها، ثم تأتينى تأشيراته عليها، فهو عسكرى شديد المراس، ولا يقبل التَّساهُل فى أمرٍ ما، وشعرتُ بضيقٍ شديدٍ، حتى إننى همستُ فى أُذن اللواء «عمر سليمان» -رئيس المخابرات المصرية الرَّاحل- بما حدث، فقال لى: لقد فعل معى ذلك أيضًا لأننى تأخَّرتُ عليه فى الرَّد تليفونيًّا دقائق معدودة، فقاطعنى أسبوعًا كاملاً، وذات مساء فُوجئتُ بالهاتف يدقُّ، وإذا بالرئيس يقول لى فى لهجة صارمة: سوف تذهب غدًا إلى ليبيا، وكانت ليبيا تحت الحصار بسبب قضية «لوكربى»، والوصول إليها يحتاج إلى أربع أو خمس مواصلات تبدأ بالطائرة حتى قيادة المنطقة العسكرية الغربية، ثم السيارات لعبور الحدود، ثم الطائرة من داخل ليبيا بحثًا عن المكان الذى يُحدِّده العقيد «القذافى» لاستقبالنا، وقد كُنَّا ثلاثة هم السيد «صفوت الشريف» -وزير الإعلام وقتها- والسيد «محمد عبدالسلام المحجوب» -نائب رئيس المخابرات العامة حينذاك- وأنا، وكان من المعروف أن الطائرات الليبية محرومة من قطع الغيار بسبب الحظر الدولى، وأن المخاطرة كبيرة فى ركوبها، وقال لى الرئيس إنها رحلة صعبة، ولكنه اختارها لى عقوبةً لتأخُّرى عليه بمسودة خطاب عيد العمال عندما حضرتُ بعد الموعد بخمس وأربعين دقيقة، وقبلتُ الأمر على اعتبار أن ذلك سوف يُؤدِّى إلى تطبيع العلاقات بينى وبين الرئيس، وهو ما حدث، وهناك قصَّة يُردِّدها الوزير «محمد عبدالسلام المحجوب» عندما طلب «القذافى» أن أتصوَّر أنا معه وحدنا، قائلاً للسيد «صفوت الشريف» والسيد «محمد عبدالسلام المحجوب»: لقد تمَّ التقاط صور لكما معى، وبقى الآن دور «مصطفى الفقى» لكى يأخذ صورة منفردة أيضًا حتى أدمغه فى كل مكان بالمشاركة فى العمل الإرهابى! وضحكنا جميعًا بعد التقاط الصورة، وظلَّ الوزير «المحجوب» يتندَّر بها حتى الآن، ولعلِّى أُسجِّل هنا أن احترام المواعيد أمر يُؤدِّى إلى احترام أصحابها، ولكنَّ هناك أحيانًا ظروفًا تُؤدِّى إلى غير ذلك، فازدحام المرور يحتاج دائمًا إلى حيطة شديدة؛ لأنه يكون فى بعض الحالات سببًا فى ضياع المواعيد وافتقاد الدِّقة، وإذا كان الأمر يتعلَّق بالرؤساء فإنه يقتضى بالضرورة قدرًا كبيرًا من الحذر المُضاعف والاهتمام الشديد حتى لا يقع المرء فى مشكلة مثل تلك التى وقعتُ فيها، ولكن لحُسن حظِّى بعد عودتى عادت المياه إلى مجاريها بينى وبين الرئيس الأسبق «مبارك»، ولكننى تعلَّمتُ مما حدث أن أكون دقيقًا للوصول فى المواعيد المُحدَّدة تفاديًا للمشكلات، وحرصًا على احترام الإنسان لذاته، ولعلَّ الغربيين وغيرهم من الشعوب المتقدمة يحرصون على دقَّة المواعيد تمامًا مهما كانت الظروف.. إنه درس تعلَّمتُه، ولم يَغِبْ عن ذهنى أبدًا!
مجلة 7 أيام
https://www.7-ayam.com/%d9%8a%d9%88%d9%85-%d8%a3%d9%86-%d8%aa%d8%a3%d8%ae%d9%91%d9%8e%d8%b1%d8%aa%d9%8f-%d8%b9%d9%86-%d9%85%d9%88%d8%b9%d8%af%d9%89-%d9%85%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%a6%d9%8a%d8%b3/