عندما استقبلت «أبوعمار» فى المطار
عندما كنتُ أعمل فى مؤسسة الرئاسة قريبًا من الرئيس الأسبق «مبارك» كانت القضية الفلسطينية هى الشَّاغل الأوَّل فى سياستنا الخارجية -ولعلها لاتزال كذلك حتى الآن- لذلك كان «أبوعمار» يتردَّد على القاهرة بشكل دورى، ويلتقى الرئيس «مبارك»؛ إذ يُوفِد إليه فى المطار لاستقباله الدكتور «أسامة الباز»، القريب من الفلسطينيين، وحامل ملف القضية من الجانب المصرى..
وذات مساء أبلغت سلطات مطار القاهرة أمن الرئاسة بأن «أبوعمار» فى طريقه إلى القاهرة فجأةً، وأنه على وصول بعد نصف ساعة، ولم يكن «أسامة الباز» مُتاحًا وقتها، أو ربما كان خارج البلاد فى مهمة، فطلب منِّى الرئيس الأسبق على عجل أن أذهب إلى المطار، وأن أُبلغ «أبوعمار» تحيَّات الرئيس الذى ينتظره فى صباح اليوم التالى، ولميكن ذلك مألوفًا؛ لأننى كنتُ سكرتير الرئيس، و«أبوعمار» يُعامل مُعاملة رئيس دولة، أو على الأقل رئيس حكومة، وبالفعل اتَّجهت بى السيارة على عجل إلى صالة كبار الزُّوَّار فى المطار، وما إن وصلت إليها حتى كانت طائرة «أبوعمار» قد بدأت فى الهبوط، فاتَّجهتُ إليها ومعى أحد أُمناء الرئاسة، وعندما توقَّفت الطائرة كان «أبوعمار» ينظر من النافذة، فحيَّانى مُبتسمًا، ولكننى لاحظتُ أنه غيرُ مُستريح للموقف، رغم أنه كانت تربطنى به علاقة وثيقة فى العمل، ولقد شعرتُ من نظرته أنه قد توهَّم أن مصر تنتقص من قدره ولا تُعطيه ما يستحقُّه فى التكريم، ودخلتُ معه إلى قاعة كبار الزُّوَّار ومعه مُرافقوه، فانتهزتُ الفُرصة وانتحيتُ جانبًا فى أحد الخطوط التليفونية لمؤسسة الرئاسة، وأبلغتُ سكرتير الرئيس الخاص بانطباعى الذى شعرتُ به، فردَّ علىَّ أن الرئيس يطلب البقاء لنصف ساعة أخرى فى صالة كبار الزُّوَّار فى مُحاولة لإيفاد أحد الوزراء لتغطية الموقف الذى لم يُعجب «أبوعمار»، والذى طلب من جانبه ضرورة مُغادرة الصالة إلى قصر الضيافة فى شارع العروبة بمصر الجديدة، فركبتُ معه سيارته، وشرحتُ له ظروف غياب الدكتور «أسامة الباز» فى ذلك اليوم، كما أن زيارة «أبوعمار» كانت مُفاجئة دون ترتيب مُسبق، وأن الرئيس «مبارك» لم يُرسلنى كسكرتير له، ولكن كممثل شخصى لمؤسسة الرئاسة، فاستراح «أبوعمار»، وانفرجت أساريره، وبدأ يحكى عن بعض أمجاده وزياراته الأخيرة فى عدد من العواصم الأوروبية، وأشار إلى سياسات إسرائيل الاستيطانية وتصرُّفاتها المسعورة فى الأرض المحتلة، وأثنى على موقف القاهرةالذى يدعم القضية عمليًّا، ولا يكتفى بالشعارات مثل غيره من الأنظمة العربية الأخرى، وكانت دهشتى فى الصباح بالغة عندما رأيتُ «أبوعمار» وهو يُقبِّل الرئيس عند لقائه به يقول له: «لقد أكرمتنا يا سيادة الرئيس بإيفاد الدكتور (الفقى) إلينا فى المطار؛ لأنه شخصية محل تقدير لدينا نحن الفلسطينيين، ونرجو أن نراه دائمًا فى استقبالنا»، ولم أعرف ماذا كان يقصد «عرفات» بما قاله، هل هى رسالة عتاب مُستتر، أم تعبير حقيقى عن شعور صادق؟! وبالمُناسبة فإننى أظن أن «ياسر عرفات» شخصية أسطورية؛ فهو قادر على القفز بين المواقف والتلاعب بالسياسات عند اللزوم، فضلاً عن قُدراته فى استمالة الآخرين، ولقد كان فى حاجة إلى عاصمتين عربيتين أكثر من غيرهما فى ذلك الوقت، وهما القاهرة وتونس، فكانيُسمِّى الرئيس المصرى (المبارك)، ويُسمِّى الرئيس التونسى (الزين)! وكانت تربطه علاقة وثيقة بالسيدين «أسامة الباز» و«عمرو موسى» أيضًا، ولأنه ينتمى إلى قطاع غزة ودرس فى هندسة القاهرة فقد كان هواه مصريًّا كما كان يُصرِّح هو بذلك، وكانت كل أفعاله تُؤكِّد هذا المعنى، ولاشكَّ أن الفلسطينيين يشعرون حاليًا بافتقاد هذه الزَّعامة الاستثنائية، خصوصًا فى هذا المُنعطف الخطير الذى تعبره هذه القضية المُزمنة؛ إذ إنه يبدو فى الأُفق أن هناك مُحاولات لتصفية القضية وتفريغها من مضمونها السياسى وتحويلها إلى قضية سكان ولاجئين، وليست قضية حق ووطن، ويكفى أن نتذكَّر أن الانقسام الفلسطينى الذى ساعد فى الوصول إلى هذا الوضع الصعب لم يحدث فى حياة «عرفات»، ولكن بعد رحيله، حيث بدأ الصدام بين فتح وحماس سياسيًّا وعلى أرض الواقع، وفقدت القضية جزءًا كبيرًا من بريقها وقُوَّة الدفع لديها.. رحم الله «عرفات» بما له وما عليه.
مجلة 7 أيام
https://www.7-ayam.com/%d8%b9%d9%86%d8%af%d9%85%d8%a7-%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d9%82%d8%a8%d9%84%d8%aa-%d8%a3%d8%a8%d9%88%d8%b9%d9%85%d8%a7%d8%b1-%d9%81%d9%89-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b7%d8%a7%d8%b1/