قصة تغيير وزاري
عاصرتُ تغييراتٍ وزاريةً عديدةً، وشهدتُ تعديلات فى الحقائب المُختلفة، وأيقنتُ أن الظُّروف والمُلابسات تلعبُ دورها أحيانًا فى الكواليس، فتطيحُ بالبعض وتأتى بالبعض الآخر، ويحضرنى الآن قصة أحد التَّعديلات الوزاريَّة المهمَّة عندما صدر خطاب التَّكليف لأحد نواب رئيس الوزراء بتولِّى المنصب خلفًا لرئيسه الذى قُبلت استقالته، وأتذكَّر الآن أن الرَّاحل «د. أسامة الباز» كتب يومها خطاب التَّكليف ودخل ليوقعه من السَّيد رئيس الجمهوريَّة، ولكن الأمر تغيَّر تمامًا، وخرج «د. أسامة الباز» من مكتب الرَّئيس وأنا فى الصالون منتظر الدخول، فإذا باسم رئيس الوزراء المُرشَّح قد تمَّ شطبه وجاء بدلاً منه شخصيَّة أخرى، وذلك فى اللحظات الأخيرة بعد أن جرى إبلاغ المُرشَّح الأول بالتَّكليف شفهيًّا، وبدأ يستعد للمنصب الكبير، ويفكر فى معاونيه الجُدد حيث كانت الأنباء قد تسرَّبت بأنه هو المُكلَّف لتولِّى منصب رئاسة الحكومة، واكتشفتُ فيما بعد أن الذى حدث هو أن رئيس الدَّولة قد أجرى اتِّصالاً فى ساعةٍ مُبكرةٍ من صباح ذلك اليوم يبلغ فيه رئيس البرلمان بترشيح نائب رئيس الحكومة رئيسًا لها، وجرى نقاشٌ بين رئيس الجمهوريَّة ورئيس البرلمان اقتنع فيه الرَّئيس بترشيح آخر لشخصيَّة كبيرة أخرى تابعت الأداء الحكومى لسنوات، ولكن صاحبها لم يعمل وزيرًا من قبل، وإن كان عضوًا سابقًا فى لجنة وضع دستور عام 1971، وقد اقتنع رئيس الجمهورية بأن التَّرشيح الجديد أفضل، خصوصًا أن رئيس البرلمان لم يكن يحمل مودةً كبيرةً للمُرشَّح الأوَّل، ولكن كانت تربطه بالمُرشَّح الجديد صلات وثيقة منذ سنوات الدِّراسة فى فرنسا، وقدأثار ذلك التَّحوُّل دهشة الجميع، وآمنَّا بأن كُلَّ مُرشَّح لأىِّ موقع لا يجب أن يتوهَّم أنه قد حصل عليه إلا إذا تمَّت الإجراءات كاملة، إذ إنه يمكن التَّغيير فى الدَّقائق الأخيرة، ولقد تقبَّل نائب رئيس الوزراء ما جرى فى صبر وهدوء، وقد جاءته رئاسة الحكومة بعد ذلك بسنوات، ولو أنه غضب وانفعل وأبدى ذلك أمام الرئيس ما جاءه المنصب أبدًا، فالله هو الذى يُقسِّم الأرزاق، ويُوزِّع المناصب، ويُغيِّر فى المواقع، إذ إن كواليس السِّياسة مُعقَّدة، ودهاليز الحُكم مُلتوية، كما أن العوامل الشَّخصيَّة تلعب أحيانًا دورًا كبيرًا فيما يحدث، فليس هناك أمر مضمون مائة بالمائة، وكُلُّ شىءٍ قابلٌ للتَّغيير والتَّعديل وفقًا للظُّروف السَّائدة، وبورصة البشر التى ترفع البعض وتهبط بالبعض الآخر، وقد علمتنى المشاهد التى رأيتها والوقائع التى عاصرتها دروسًا من أهمها:
أولاً: إن الله إذا كان قد أعطى لكلٍّ مِنَّا أربعة وعشرين قيراطًا يُوزِّعها بين الصِّحَّة والثَّروة والذُّريَّة بل والشُّهرة والمكانة الاجتماعيَّة أيضًا، فإن الأمر لا يمكن الجَزْم به، وكُلُّ شىءٍ يمضى وفقًا لقوانين غير مرئيَّة تتحكَّم فينا مهما كانت درجة اليقظة ومظاهر الحذر، فقد تجد شخصًا لا يملك من كُلِّ هذه المقومات شيئًا، ولكن الله أعطاه الأربعة وعشرين قيراطًا كاملة، مُتمثلة فى حالة الشُّعور بالرِّضا والقناعة الذَّاتيَّة والسَّعادة الشَّخصيَّة التى قد تُوجد دون سبب أو تفسير.
ثانيًا: قد يجتهدُ المرء ويسعى ثم لا تتحقق آماله، بل وتتجمد أحلامه، وقد يظن أن ذلك هو نهاية المطاف، وأن الدُّنيا قد أظلمت فى كُلِّ اتجاه، ولكن الصَّبر والدأب ومُواصلة العمل عوامل تكفل الشُّعور الحقيقى لما يمكن أن يحققه المرء فى حياته، كما أن هناك عوامل أخرى يطلق عليها فى مجموعها كلمة الحظ، أى مجموعة العوامل غير المنظورة التى تعطى أفضليَّة لشخص على آخر دون أن يكون له يد فى ذلك، مثل المظهر العام والملامح الذَّاتيَّة والقُدرة على السُّخرية فى وقتها المُناسب.
ثالثًا: إذا ضاعت فرصة فلا يجب أن يتصوَّر مَنْ فقدها أن ذلك هو نهاية المطاف، بل إن هناك مخزونًا من الصُّدف والمزايا لا تتحقق إلا لمَنْ سعى إليها، وتطابقت إرادة الله مع رغبة ذلك الشَّخص جزاء ما فعل، إذ إن لكُلِّ مُجتهدٍ نصيبًا.
قد يسعى المرء إلى موقع يتطلَّع إليه، ويحارب من أجله ويخوض صراعات فى سبيله، فإذا بلغ المُراد كانت نهاية صاحبه، أو جاءت الرِّياح بما لا تشتهى السُّفن، إذ يكتشفُ المرء أنه كان يجرى وراء سرابٍ، كما يدركُ المرء فى النِّهاية أن الصِّحة هى أهم هذه العوامل وأغلاها، لذلك قيل إنها تاجٌ على رءوس النَّاس لا يشعر به إلا المرضى، فليكن طموحنا محسوبًا، ولتكن أحلامنا واقعيَّة، ولتكن درجة تقبُّلنا لما تأتى به المقادير مصدرًا دائمًا للسَّعادة، وقد تذكَّرتُ «حكمة دانماركية» تقول للفتاة فى مُقتبل العمر: «إذا لم تحصلى على مَنْ تحبين، فلتحبى ما حصلتِ عليه بالفعل!».
مجلة 7 أيام
https://www.7-ayam.com/%d9%82%d8%b5%d8%a9-%d8%aa%d8%ba%d9%8a%d9%8a%d8%b1-%d9%88%d8%b2%d8%a7%d8%b1%d9%89/