أعاد موضوع «سد النهضة الإثيوبى» إلى ذاكرتى بناء «السد العالى المصرى» والظروف التى سبقته والملابسات التى أحاطت به والنتائج التى نجمت عنه، وتذكرت «فيضان النيل» كل عام، والذى كان جزءًا من تكوين التراث المصرى عبر عصوره المختلفة، وأنا هنا لا أجادل فى أهمية «السد العالى» وجدوى إنشائه والعوائد الضخمة التى حصلت عليها «مصر» من إقامته، بدءًا من حمايتها من الجفاف، مرورًا بتوليد الكهرباء، وصولًا إلى وجود «بحيرة السد»، التى تبدو مصدر خير كبير لم نتمكن من استغلاله بعد، ولكن الذى يعنينى فى هذا المقال هو أن أتذكر «مصر» من حيث المناخ والتربة وطقوس الحياة قبل إنشاء السد، ففى شهر «أغسطس» من كل عام أو قبله قليلًا أو بعده أحيانًا، كان المصريون يعيشون أفراح الفيضان بكل ما لحق بها من أساطير، بدءًا من إلقاء «عروس النيل» فى النهر، وصولًا إلى موسم «غمر المياه» فى حقول «مصر الخضراء»، وأتذكر أنه فى تلك الأيام وأثناء الفيضان كنت ترى التربة فى الصباح الباكر وقد غمرها الندى، تصويرًا لقول الشاعر المصرى فى رائعته «الكرنك»: «وشكا الطَّل إلى الرمل جراحه»، إننى لا أنسى الصباح الباكر فى فترة الفيضان، الذى كان يحمل معه الخير والنماء والتربة السوداء لـ«مصر» أرضًا وشعبًا، وأتذكر أيضًا أنه كان موسمًا للطعام المختلف مثل أنواع «السردين الأخضر»، الذى يتكاثر عند مصافحة «مياه النيل» العذبة لمياه «البحر المتوسط» المالحة، لقد كانت أيامًا لها طقوس لن تعود أبدًا! وليست تعنى هذه النغمة العاطفية فى الحديث عما قبل «السد العالى» أننا ننكر ضرورة قيامه وشدة الحاجة إليه، ولكنها لعنة التطور العلمى والتقدم التكنولوجى، إذ إن «علم السدود» هو إحدى أهم الدراسات الهندسية، ولدينا متخصصون كبار فيه يمكن الرجوع إليهم والاستماع منهم، ولعلى أوضح ما أريد من خلال مجموعة من الملاحظات، وأستدرك هنا لكى أقول إنه على الرغم من أن تقسيم المقال إلى عدة نقاط هو أمر يحظى بقبول عام لدى القراء، حتى إن قداسة البابا «تواضروس الثانى» قد ذكر لى شخصيًا أنه يفضل أسلوبى فى سرد أفكار المقال من خلال نقاط متتالية، حرصًا على تركيز المعلومة ووصولها للقارئ بسهولة، ولكن هناك أيضًا من أصدقائى- مثل الكاتب الصحفى النابه الدكتور أسامة الغزالى حرب- مَن لا يفضل طريقة عرض المقال من خلال نقاط متتابعة، ويرى أن وحدة المقال تكاد تكون أكثر تماسكًا إذا جاء متلاحما غير مجزأ، وأنا بين الاتجاهين أفضل الطريقة التى أمضى عليها، لأنها امتداد لأسلوب البحث العلمى الذى درجت عليه منذ كنت طالبًا متخصصًا فى «الفيزياء» أثناء دراستى فى المرحلة الثانوية، وأعود الآن إلى جوهر مقالنا لكى أعرض الأفكار التالية:
أولًا: لا يجادل أحد فى أن التقدم «التكنولوجى» هو طريق المستقبل، وأن التفكير العصرى يقودنا إلى الاستغلال الأمثل للموارد المائية، لذا جاء بناء «السد العالى» استجابة للغة التطور، ومضيًا مع الفكر التنموى فى كافة المجالات الزراعية والصناعية، بل الخدمية أيضًا، ونحن لا نجادل فى أن للتقدم تكاليفه وللتنمية ثمنها، ولا يجب أن نتصور دائمًا أن الذين يتحدثون عن مرحلة معينة هم مَن يعادون بالضرورة الحاضر أو يخاصمون المستقبل، فقد سمعنا منذ سنوات أن أرشيف صحيفة «لوموند» الفرنسية قد عدل لفترة حديثة عن الأخذ بالأساليب الإلكترونية، وفضَّل فى بعض أقسامه العمل بالطريقة التقليدية القديمة، إذ ليس كل جديد بالضرورة رائعًا، وليس كل قديم بالضرورة سيئًا.
ثانيًا: إن الفصل الخاص بقانون الأنهار فى كتب القانون الدولى يؤكد دائمًا الشراكة بين دول النهر الواحد، ويفترض المساواة بين دول «المنبع» و«المجرى» و«المصب»، ولا يعطى طرفًا خاصًا حقًا متميزًا على حساب سواه، لذلك فإن «مصر» عندما أقامت «السد العالى» كانت تدرك أنه لا ضرر يلحق بغيرها، لأنها «دولة مصب»، أما «سد النهضة الإثيوبى» فهو يؤثر على كل الدول التالية له من «مجرى النيل»، فالأمر إذًا مختلف، وعلى أشقائنا فى «إثيوبيا» أن يدركوا مرة أخرى أن حقهم فى التنمية لا ينال من حق «مصر» فى المياه.
ثالثًا: منذ قام «السد العالى» وأصوات الخبراء لم تتوقف بين أغلبية سعيدة به وأقلية غير راضية عنه، فظهر مَن يتحدثون عن سلبيات «السد» وتأثيره على المناخ والتربة وضعف عوائده بالنسبة لما كان مأمولًا، فضلًا عن مخاطر دخول المنطقة فى «حزام الزلازل»، ولكن دعنا نعترف بأن تقويم «السد العالى» قد خضع للأهواء السياسية، فأعداء «عبدالناصر» لا يتحمسون لكل ما جرى فى الحقبة الناصرية سيئًا أو حسنًا، كما أن الحقيقة تدحض كثيرًا من المزاعم المعادية فى هذا الشأن، وإن كانت هناك عواطف تشدنا إلى أجواء المناخ والتربة وطقوس الزراعة والرى لفترة ما قبل بناء «السد»، ولعلى شخصيًا قد وقعت فريسة لذلك الشعور بالحنين إلى الماضى فى السطور الأولى من هذا المقال.
رابعًا: إن «سد النهضة» هو مصدر قلق بالغ للمواطن المصرى العادى، الذى عاش عبر القرون مؤمنًا بأن أشقاءه فى الجنوب لا يحملون له حقدًا ولا يُضمرون له ضررًا، بل لقد عاش المصرى فى العقود الأخيرة رافضًا لا يصدق كل الشائعات التى تتحدث عن احتمالات العبث فى أعالى النيل، بتحريض من قوى أجنبية يعرفها الجميع، ولكن وفد علينا حين من الدهر تأكدت فيه الشكوك وتحققت نبوءة المتشائمين أو حتى المغرضين، ولكننا نريد فى الوقت ذاته أن نصل إلى صيغة ترضى كل دول «حوض النهر» وتجعل الجميع رابحين ولا تحقق السعادة لطرف على حساب غيره، إننا نريد لأشقائنا النمو والازدهار، ولكننا لا نقبل لشعبنا العطش ولا لأرضنا البوار!
عندما كان يأتى الفيضان كل عام كانت طقوس الحياة تتغير، وتقاليد الريف تتحول، ونرى «مياه النهر» وهى تكتسب لونها البنى، لما تحمله من طمى يجدد الحياة وينشر الخصب، حتى إن الفراعنة تحدثوا عن «إله الفيضان» منذ آلاف السنين.. إنه تاريخ طويل لحضارة عريقة، ولكن رغم السدود والمشروعات التى تثير الجدل فإن «مصر» لن تركع أبدًا.
جريدة المصري اليوم
5 أبريل 2016
https://www.almasryalyoum.com/news/details/923527