يشكو المصريون عبر التاريخ من حكامهم منذ العصر الفرعونى حتى الآن، وهى تكاد تكون ظاهرة عامة لدى معظم الشعوب عبر التاريخ، لأن معادلة الحاكم والمحكوم معادلة مبتورة، وتقوم على نوع من الحوار الصامت يكاد يقول فيه المحكوم للحاكم: «سوف أدعك وشأنك، شريطة أن تتوفر لى مقومات الحياة الأساسية، مع حد أدنى من مستويات المعيشة المقبولة، وأيضًا دعنى وشأنى إلا ما يُعد خروجًا عن القانون أو انتهاكًا لحرية الآخرين»، ولقد أدى ذلك «العقد الاجتماعى» المبرم بين الشعب والسلطة إلى موجات من الصعود والهبوط بين المحكومين والحكام، فإذا كنا نؤرخ لـ«مصر الحديثة» بعصر «محمد على»، فإننا نجد أن حكم «الأسرة العلوية» اقترب من قرن ونصف القرن، مستمرًا فى السيطرة على البلاد والتحكم فى العباد، ونكتشف أن المواطن كان دائمًا مقهورًا ومضغوطًا يطرح شكايته، صباح مساء، مثلما كان يفعل «الفلاح الفصيح» فى العصر الفرعونى.
وعندما قامت ثورة يوليو 1952 وجاء حكم «عبدالناصر» بروح قومية عالية، فإن «كاريزما» القائد ملأت الدنيا وشغلت الناس، حيث انصرف المصريون لمتابعة القضايا القومية والمعارك الوطنية التى خاضها «عبدالناصر»، وجعلت أى انتقاد له مسألة هامشية فى مواجهة شعبيته الكاسحة، وعندما جاء «أنور السادات» برؤيته المتفردة، انبهر المصريون بقراراته المفاجئة و«صدماته الكهربائية»، ورأوا فى فترة حكمه تغييرًا كبيرًا عن «العصر الناصرى» بضغوطه وتضحياته، كما أن «الانفتاح الاستهلاكى» قد جعلهم يتوهمون ما لا يعرفون، وكان الحوار بين الحاكم والمحكوم ذا دلالة نتذكر منها حوار «السادات» العلنى مع المرشد الثالث لجماعة الإخوان المسلمين «عمر التلمسانى»، وعندما وصل «مبارك» إلى سدة الحكم رأى فيه المصريون حاكمًا يسعى لتثبيت الأوضاع وإحداث توازن سطحى يجعله يحافظ على الأوضاع القائمة ويواصل السياسة السابقة، وفى عهده اتسعت مساحة حرية الصحافة، بل حرية الإعلام عمومًا، فخرج الحوار عن صمته وأصبح حوارًا علنيًا، ولقد آثر الرئيس الأسبق «مبارك» وأركان حكمه تجاهل مظاهر المعارضة واستخفوا بالمعارضين عمومًا تحت وهم أن القبضة الأمنية قادرة على سحق أى تمرد وكبح جماح عناصر المعارضة عند اللزوم، مع عدم الإصغاء لصوت الشارع الذى كان عاليًا يطالب بالتغيير حتى امتد هديره إلى «ميدان التحرير»، فسقط «مبارك» ونظامه، وعندما قامت ثورة 25 يناير 2011 حدثت تحولات جذرية فى الشخصية المصرية، لأن الغطاء الذى كان مفروضًا على الإناء المصرى قد زال، فأخرجت «مصر» أفضل ما فيها فى الأيام الأولى للثورة، ثم أخرجت بعد ذلك أسوأ ما فيها، وتحول الحوار الصامت من «حوار علنى» إلى «حوار صاخب»، وأصبح المصريون فى معظمهم فقهاء سياسة وعلماء قانون وخبراء استراتيجية ومحدثين فى كل الموضوعات بعلم أو بغير علم! وكانت نتيجة ذلك أن توقفت إلى حد كبير عجلة الإنتاج، ودخل الاقتصاد المصرى أكثر من مرة إلى غرفة الإنعاش، وأصبح حديث المصريين عن المعونات العربية والقروض الأجنبية بديلًا للعمل الفعلى من أجل «مصر» أو إصلاح مسار الحياة، خصوصًا فى مجالى الصحة والتعليم ومواجهة «العشوائيات» والبحث فى المخاطر التى تحيط بالوطن، وفى مقدمتها المحاولات الخبيثة للمساس بحصة «مصر» من مياه «نهر النيل»، وذلك لا ينفى بالطبع وجود محاولات جادة من الدولة، خصوصًا خلال العامين الأخيرين، فى محاولة لانتشال الوطن مما هو فيه والخروج به من عنق الزجاجة، وظهرت بالفعل مشروعات وأفكار توحى بالأمل وتبدد ظلام الإحباط وتطيح بسطوة اليأس، وقد انعقدت إرادة المصريين إلى الانتقال من «الحوار الصامت» إلى «الجدل العلنى»، واندفعوا نحو غايات قد تبدو صعبة المنال ولكنها ليست من المحال، فلو بدأ المصريون برنامجًا إصلاحيًا شاملًا برؤية متكاملة، مع توظيف كافة كوادر الوطن القادرة على العطاء، والتى تقف على أرض وطنية، مهما اختلفنا معها، عندئذ فقط نكون قد بدأنا اجتياز المرحلة الصعبة والمضى نحو مجتمع يسعد فيه الجميع، حتى الأغنياء، وشعب يتمتع بحد أدنى من مطالب الحياة، حتى الفقراء، وإذا كانت لنا قيادة قد اكتسبت شعبية كبيرة منذ منتصف عام 2013 فإن علينا- وعليها أيضًا- أن نستثمر هذا «الزخم الشعبوى»، من أجل الانطلاق إلى المستقبل والتحليق فى سماوات النهضة، ولن يتحقق ذلك إلا بالموضوعية الكاملة وجذب الكفاءات الراقية من كافة الميادين العسكرية والمجالات المدنية، فـ«مصر» أَوْلَى بأبنائها- كل أبنائها- وإذ نحن على أعتاب مرحلة جديدة، فإننا نلفت النظر إلى حقيقة مؤداها أنه لن يبنى «مصر» إلا المصريون، وأن عجز الموارد الطبيعية أحيانًا يعوضه تفوق الموارد البشرية مثلما حدث فى «التجربة اليابانية»، بل و«الصينية» و«الهندية»، وأجازف وأقول و«السويسرية» أيضًا، فالعقل البشرى هو صانع المعجزات، وهو القادر على المضى قدمًا ونهوضًا بالأمم وارتقاءً بالشعوب وسموًا بالسلوك الإنسانى، حتى يكون مهيأً بحق لعمليتى التنمية والديمقراطية فى وقت واحد.
إننا لن نكل من الحديث حول أهمية اقتحام المستقبل عن طريق التعليم الأفضل، إذ إنه عندما تراجع التعليم المصرى تراجعت تلقائيًا مكانة الدولة إقليميًا وهدأ دورها دوليًا، فصناعة المستقبل تبدأ بالتعليم العصرى، هكذا فعل «محمد على» فى بناء «مصر الحديثة»، و«نهرو» عند التخطيط لـ«الدولة الهندية العصرية»، بل إن «مهاتير محمد» قد توقف طويلًا عند قضية التعليم قبل أن يقدم للعالم «التجربة الماليزية» الناجحة.. إن الحوار مع الذات سوف يظل صامتًا، ولكنه لن يتوقف عن البوح بما يختزنه من رؤى وأفكار ومشاهد، تركيزًا على الحالة المصرية الفريدة فى نوعها، المؤثرة فى غيرها، الواعدة دائمًا!
جريدة المصري اليوم
5 يناير 2016
https://www.almasryalyoum.com/news/details/868616