إن أغلى سلعة تصدرها «مصر» عبر التاريخ هي ثقافة شعبها، فالفن المصرى من «سينما» و«مسرح» و«أغنية»، والأدب المصرى من «رواية» و«قصيدة» و«صحيفة» هي التي شكلت صورة الشعب المصرى في الدوائر العربية والأفريقية والإسلامية وربما في العالم كله، وتشكل منها وجدان أجيال كاملة، إذ إنه انطلاقًا من الحضارة «الفرعونية» الملهمة انطلقت تلك السلع المصرية الثقافية لكى تكون أداة التواصل التي تعبر عن هذا الوطن ومكانته وتظهر قيمته الحقيقية ومعدنه الأصيل، لذلك فإننى واحد ممن يظنون أن «وزارة الثقافة» هي واحدة من أهم الوزارات إن لم تكن أهمها جميعًا لأنها المسؤولة عن تشكيل الوجدان المصرى وصياغة منظومة القيم والتقاليد التي تضع الإطار الشامل والكامل لسلوك المصريين في الداخل وفى الخارج ولم يكن عميد الأدب العربى د.«طه حسين» مجافيًا لروح التاريخ الثقافى حين تحدث عن «مستقبل الثقافة في مصر» في كتابه الشهير الذي غازل فيه ثقافات «البحر المتوسط» خصوصًا في الجانب الإغريقى ليشير بحق إلى التواصل بين الحضارات في تلك المنطقة، ولقد كنت في زيارة لـ«المغرب» مؤخرًا ورأيت تعلق «المغاربة» الشديد بأغانى «أم كلثوم» و«عبدالوهاب» و«عبدالحليم حافظ» والهوس الذي يجتاح كثيرًا من الشخصيات بمسرحيات «عادل إمام» وأعماله الفنية التي تحتل مكانة كبيرة لدى كثير من العرب، بدءًا من «المغرب» وصولًا إلى «العراق». إن الذين يتحدثون عن «مصر» يشيرون دائمًا إلى الطاقات الإبداعية والمخزون الثقافى الذي ارتبط دائمًا بعبقرية الزمان والمكان والسكان، فالمصرى فنان بطبعه، خلاق الفكر، مبدع الخيال، يملك ذكاء العقل واليدين في وقت واحد، لأنه شعب المفكرين والبنائين أيضًا، وقد كان أستاذ الجغرافيا العظيم «سليمان حزين» يقول لى دائمًا: «إن قيمة المصرى في الطاقة الكامنة من ذكاء اليدين عند أطراف الأصابع» لذلك شيد «الأهرام» وحفر «القناة» وبنى «السد العالى» ثم حفر «القناة الثانية» ولكن بعد رحيل مؤرخ الجغرافيا «سليمان حزين» وعبقرى الزمان والمكان «جمال حمدان» طافت بخاطرى هذه الرؤى وأنا أتأمل التاريخ الفكرى للدولة المصرية، حيث أدركت على التوّ أن الأفكار الكبرى التي أثرت في المنطقة حولنا قد انبثقت من «مصر» وانتشر إشعاعها لكى يغطى العالمين العربى والإسلامى ودول القارة الأفريقية، فـ«حركة التنوير» بدأت إرهاصاتها من «مصر» على يد الرواد الأوائل الذين يتقدمهم «رفاعة الطهطاوى» ولعب «الأزهر الشريف» دورًا تاريخيًا طويلًا في الحفاظ على الثقافة الإسلامية والتراث العربى، ثم ظهر الإمام المجدد «محمد عبده» لكى يثبت العلاقة الوثيقة بين الإسلام الحنيف وروح العصر بما فيه من علوم وفنون وآداب، وحتى «الإسلام السياسى» ــــ بما له وما عليه ـــ هو مولود مصرى بدأ على يد الإمام «حسن البنا» في مدينة «الإسماعيلية» عام 1928.
إن القوى الناعمة التي تملكها «مصر» تبدأ من ثقافتها وتنتهى بها أيضًا وليس سرًا أن أفول الدور المصرى وتراجعه قد ارتبط تاريخيًا بخفوت صوتها الثقافى وشحوب دورها التنويرى، لذلك يذكر أشقاؤنا العرب دائمًا أن «مصر» قد علمت وطببت وهندست وارتبطت بحركة التعليم والتثقيف والإعمار في عدد من الدول العربية على امتداد القرن العشرين، بل يتحدث الجيل القديم من أبناء «الشام» و«العراق» و«الخليج» و«دول المغرب العربى» عن انتظارهم الشغوف لمجلة «الرسالة» التي كان يصدرها «أحمد حسن الزيات» وبعدها وربما قبلها أيضًا ارتبطوا بالدوريات المصرية في كافة المجالات، فـ«مصر» هي التي صدرت دائمًا الأفكار الرائدة والرؤى العميقة ولا عجب، فهى التي صدرت إلى الدنيا «منطق التوحيد» ذاته منذ أن دعا إليه «إخناتون» في فجر التاريخ المكتوب، وإذ نستقبل وزيرًا جديدًا للثقافة هو الصديق «حلمى النمنم» فإننا نعلم أنه يدرك قيمة ما نقول وأكثر منه ونأمل أن يكون امتدادًا لأسلاف صالحين شغلوا هذا المنصب باقتدار، بدءًا من الموسوعى «ثروت عكاشة» مرورًا بالفنان «فاروق حسنى» وهما الوزيران اللذان أتاحت لهما فرصة طول المدة وفسحة الوقت أن يفعلا شيئًا في خدمة الثقافة المصرية المتألقة دائمًا المتوهجة باستمرار، ولا ننسى فضل آخرين مثل التنويرى د.«جابر عصفور» أو التقدمى د.«صابر عرب» فلقد أسهم الجميع بما يستطيعون وفقًا للظروف السياسية والأطر القانونية التي تحكم النشاط الثقافى في البلاد، ولست أشك في أن الطاقة الإبداعية المصرية لاتزال غير كاملة الاستغلال، بل محدودة التوظيف، وأملى أن يلقى الوزير الجديد بحجر في المياه الراكدة يسمح لنا بأن نرى «السينما المصرية» تستعيد عافيتها في ظل مناخ عصرى متوازن، وأن نرى سيادة للأفكار «الليبرالية» والروح العصرية التي دافع عنها وزير الثقافة الحالى في كتبه التي ضحدت الفكر المتطرف وأدانت فلسفة العنف.
إننى أتطلع إلى عصر جديد تستكمل فيه الهوية المصرية ملامح وجودها خصوصًا في الخارج، عندما يكون لنا «زى شعبى معروف» و«أغان هادفة» تسيطر على مشاعر من يستمع إليها و«رقصة شعبية» تؤكد البصمة المصرية في كل اتجاه ولنا في «الثقافة الهندية» أسوة ومثال لا يحتاج إلى شرح أو إيضاح، كما أننى أهيب بالقطاع الخاص المصرى أن يتبنى المشروعات الثقافية التي لا تقل أهمية بالنسبة للشباب عن التربية السياسية المطلوبة أو الشعور بعوائد التنمية المنتظرة، بل تحقيق العدالة الاجتماعية ذاتها، وعندما كنت سفيرًا في «فيينا» لفت نظرى أن البنوك الخاصة ومقار الشركات الكبرى تتحول في المساء إلى معارض ثقافية أو منتديات فكرية، وكلمة السر دائمًا هي «بثقافة الأوطان تتقدم الشعوب»، إننى أتمنى على المدفعية الثقافية الثقيلة التي عرفناها في زمن «العقاد» و«طه حسين» و«توفيق الحكيم» أن يعود إليها الزخم من جديد حتى يدفع بـ«مصر» إلى المقدمة كى تستعيد ريادتها التي لن تفقدها أبدًا!
جريدة المصري اليوم
23 سبتمبر 2015
https://www.almasryalyoum.com/news/details/816063