يحفل التاريخ المصرى الحديث، خصوصاً فى الفترة الليبرالية (1922-1952) بزعامات ذات رؤية بعيدة وأفق واسع وقدرة فريدة على استشراف المستقبل وفهم أبعاده، ولعل نموذج «إسماعيل باشا صدقى» هو واحد من أولئك الذين يذكر لهم التاريخ السياسى المصرى الحديث أنه كان سياسياً من طراز فريد يصعب التشكيك فى وطنيته أو النيل من مكانته فهو من رفاق «سعد زغلول» فى المنفى الأول وهو سياسى داهية لعب أدواراً هامة فى تاريخ العصر الملكى، وإذا كنا نتذكر له خطيئته البارزة بالعدوان على دستور 1923 وتشكيله حزب «الشعب» الموالى للقصر ضد إرادة الأمة المصرية فى ذلك الوقت إلا أن تلك السقطة لا تنزع عنه قيمته الفكرية ونظرته الاقتصادية ووعيه بكثير من شؤون «مصر» وأحوالها، وقد كتبت السيدة «سنية قراعة» كتاباً شهيراً بعنوان «إسماعيل صدقى.. نمر السياسة المصرية»، وعندما كنت أدرس الدكتواره فى جامعة «لندن» تحت إشراف أستاذ العلوم السياسية الشهير «فايتكيوتس» كانت تدرس معى فى ذلك الوقت زميلتى الراحلة الدكتورة «منى أبوالفضل»، وكان موضوع رسالتها الذى نالت به درجة الدكتوراه يدور حول «إسماعيل صدقى» وسياسته الفريدة. وأنا أكتب هذه السطور الآن لكى أقرر أن «إسماعيل صدقى» ـ بكل ما له وما عليه ـ يبدو شخصية سياسية متميزة ذات طابع فريد ورؤية مستقبلية واضحة، ولا عجب؛ فقد كان عهداً تميز فيه المشتغلون بالسياسة بالمكانة العلمية والفكرية والخبرة الاقتصادية، إنه عصر «أحمد لطفى السيد» و«طه حسين» و«محمد حسين هيكل» وغيرهم من الرموز الأكاديمية التى تركت بصمات قوية على مسيرة العمل الوطنى فى «مصر»، ويهمنى هنا أن أوضح أن «إسماعيل صدقى باشا» كانت له رؤية خاصة بالصراع العربى الإسرائيلى والمشكلة الفلسطينية فى وقت مبكر، وهو الذى قال «إذا حاربتم اليهود وهم أمة غير مقاتلة انصرفت للتجارة وقطاعى المال والبنوك، فإذا قاموا بالتركيز على القتال فسوف يتفوقون فيه» وكأنما نكون نحن الذين علمناهم الاهتمام بالحرب وفنون القتال. ولقد أدرك «إسماعيل صدقى» برؤيته المبكرة أن اليهود الذين احتشدوا من أنحاء العالم على أرض «فلسطين» سوف يسعون إلى إجادة ما يعملون مثلما هو أمرهم فى باقى شؤون الحياة، وأنهم سوف يحيلون الأراضى المحتلة إلى ترسانة أسلحة ويستقطبون الخبرات العسكرية من كل مكان، ونكون بذلك قد حولناهم من شعب لا يجيد القتال إلى دولة محاربة، وهذا ما حدث بالضبط فكأنما كان «إسماعيل صدقى» يقرأ فى كتاب مفتوح، لأن قراءته للمستقبل كانت قراءة واعية وقد كان يرى ببصيرته البعيدة أن الحل للمشكلة الفلسطينية يمكن أن يرتكز على معادلة اقتصادية يفهمها اليهود جيداً قد تكون أقرب إلى قرار التقسيم الذى رفضناه فى حينه. إن مثل هذه الرؤية المتفردة من جانب هذا السياسى الذى ينتمى إلى طراز خاص هى إحدى الفرص الضائعة على الفكر العربى والتى تؤكد انعدام قدرة الساسة والمالكين لمقاليد الأمور على فهم أبعاد المشكلة ودراسة معطيات الصراع، ولقد استمعت إلى وزير خارجية «إسرائيل» الأسبق «أبا إيبان» يتحدث فى محاضرة له بالنادى الدبلوماسى فى القاهرة بعد توقيع اتفاقية السلام قال فيها «إن تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى هو تاريخ الفرص الضائعة» ولكن ذلك لا ينفى أن تعنت «إسرائيل» إنما يتحمل المسؤولية الأولى فى وصول ذلك الصراع إلى المرحلة التى بلغها وحجم الدماء التى سالت من أجله والحروب التى قامت بسببه، لذلك فإننا نظن أن نمط «إسماعيل صدقى» الذى كان يفكر «خارج الصندوق» يستلهم حلولاً غير تقليدية للمشكلات الإقليمية. لقد كانت تلك رؤية صائبة برغم تسليمنا بأنه كان عدواً للإرادة الشعبية المصرية فى مرحلة معينة وكان معادياً «للوفد» عميلاً «للقصر»، ولكن قدرة الخيال والتفوق العقلى هما من سمات رجال الدولة حتى وإن اختلفنا معهم فى بعض المواقف فهناك فارق فى التقويم بين النظرة الأخلاقية والرؤية العقلية. كما أن علينا أن نأخذ الجانب الإيجابى فى كل سياسى متميز أو رجل دولة رفيع القدر، وأنا أحسب هنا بالمناسبة أن الرئيس المصرى الراحل «أنور السادات» كان نمطاً فريداً لرجل الدولة الذى قد (يغرد خارج السرب)، ولكنه يحقق فى النهاية جزءاً من رؤيته، وقد يعترف بعض معارضيه بأنه كان على صواب ولو بعد حين، نعم.. إننى أعلم أن «إسماعيل صدقى» شخصية مكروهة فى السياسة المصرية الحديثة، ولكنه أيضا صاحب عقلية متقدة وفكر خلاق وخيال ثرى رأى المستقبل بمنظار اليهود ذاتهم، وذلك هو السياسى الذى يضع نفسه فى مكان الطرف الآخر فيرى ما لا يراه الآخرون!
جريدة المصري اليوم
3 أبريل 2015
https://www.almasryalyoum.com/news/details/697248