اشتُهر عرَّاف هندى بقدرته على قراءة الطَّالع على نحوٍ مُذهلٍ؛ فهو يتنبَّأ بالأحداث، ويستطيع أن يقرأ المستقبل، رغم أننا نقول دائمًا: (كذب المُنجِّمون ولو صدفوا). وقد وصلت شُهرة قارئ الطَّالع الهندى إلى رئيسة الوزراء (أنديرا غاندى) –آنذاك- فكانت تلجأ إليه فى التعرُّف على الاحتمالات القادمة على المستويين السياسى والأُسرى.
أثناء عملى مستشارًا بالسفارة المصرية فى (نيودلهى) زارنا الوزير الراحل د.إبراهيم بدران، والسيدة قرينته، وهو الذى شغل مواقع مهمةً فى مصر، فكان وزيرًا للصحة، ورئيسًا لجامعة القاهرة، ورئيسًا لأكاديمية البحث العلمى. وقد استقبله العلماء الهنود بحفاوةٍ بالغةٍ، فقد كان الراحل العظيم شديد التواضع، مُحبًا للمعرفة، مُولعًا بالبحث العلمى، وقد انتهت حياته وهو رئيس للمجمع العلمى المصرى الذى أنشأه (نابليون بونابرت) أثناء وجود الحملة الفرنسية.
ولقد حَكَيْنا أمام المسئول المصرى الكبير -ضيفنا العزيز- عن العرَّاف الهندى الشَّهير فتعلَّقت السيدة قرينته بما نقول، وطلبت أن ندعو ذلك العرَّاف إلى جلسة معنا -ولو على سبيل التسلية وإرضاء الفضول- فأجريت اتصالاً من مكتبى برقم هاتف العرَّاف الشَّهير، وطلبت من مساعديه تحديد موعدٍ منه لزيارتنا فى المنزل.
وبالفعل، جاءنا العرَّاف الهندى فى موعده المُحدد، وبدأ ينفرد بكل واحدٍ منا -رجلاً أو امرأةً- ويستمع منه، ثم يُعطى تعليقه حول المستقبل، وينتهى كل لقاءٍ بما يُشبه الذُّهول؛ نظرًا لدقَّة المعلومات التى يعرفها العرَّاف عن كلٍّ منا. وأشهد أننى كنت أكثر الحاضرين تندُّرًا على العرَّاف واستخفافًا بأسلوب قراءة الطَّالع فى كل الأحوال، وعندما انفرد بى ردَّد على مسامعى معلوماتٍ من تاريخ حياتى أدخلتنى -أنا الآخر- فى مرحلة الذَّهول الشديد، وبدأت مصداقيته تكتمل لدىَّ، وقد أنهى حديثه معى –وقد كنا فى شهر يوليو 1981– بأننى سأدخل (القصر الكبير) بعد ثلاثة أشهر، وكنت أضحك مع الحاضرين قائلاً: يبدو أننى سوف أتعرَّض لوعكةٍ صحيةٍ لأدخل (قصر العينى) فى (القاهرة)؛ لأنه لم يكن واردًا دخولى أى قصرٍ آخر، وكأنما أرادت الإرادة الإلهية أن ترتفع مصداقية العرَّاف عندى وعند من حولى جميعًا بدرجةٍ عاليةٍ، فبعد ثلاثة أشهر من تلك القراءة المُثيرة كنت مطلوبًا من الرئيس الأسبق (مبارك) للذهاب إليه فى (القصر الجمهورى)، حيث كلَّفنى بالعمل معه، ومكثت فى القصر الكبير قرابة ثمانى سنوات، وبذلك تحقَّقت نبوءة العرَّاف الهندى بعد أن كنتُ أسخرُ مما يقول، وأستخفُّ بالخطابات الرسمية التى يحتفظ بها من (جواهر لال نهرو) فى مطلع ستينيات القرن الماضى، وغيره من الشخصيات الهندية البارزة، وبدأت أُردِّد بينى وبين نفسى: (صدق المُنجِّمون ولو كذبوا أحيانًا!).
وأنا على يقينٍ من أن معرفة الغيب هى لله وحده، ولكننا رأينا نماذج وأمثلةً لمشاهير فى عالم قراءة الكفِّ، وإذا كانت (الهند) بلد العجائب والغرائب، فإنها أيضًا بلد العلم والمعرفة، وأرض الثقافات المُتعددة، والحضارات الوافدة، والفلسفات المستقرة، إنها أرض الأفيال والقرود، وبلد (تاج محل) والآثار المغولية الإسلامية، إنها أمةٌ ذات طابعٍ خاصٍ تؤثِّر فى غيرها، ولا تتغيَّر بسهولةٍ! فلهم طعامهم، وأزياؤهم، وأغانيهم، ورقصاتهم، فـ(الهند) دولة واضحة الهوية، شديدة التميز؛ لذلك لم يكن غريبًا أن يخرج منها العرَّافون وقارئو الكفِّ؛ فهى تجمع بين المُتناقضات، بدءًا من أعلى درجات العلم والمعرفة، هبوطًا إلى أسفل درجات الخُرافة والشعوذة.
إنها (الهند) التى تعلَّمتُ منها، وتأثَّرتُ بها، واحترمتُ دومًا شعبها، وقد أتاحت لى الظروف أن أزور (الهند) بعد عشرين عامًا من مغادرتها، فوجدتها على العهد بها عصيةً على الذوبان فى غيرها أو اختفاء شخصيتها، ولم أشهد تحولاً واحدًا فى مزاج شعبها، رغم أنها أصبحت دولةً نوويةً، ودولة فضاءٍ، وواحدةً من الدول الصناعية الكبرى، فضلاً عن وصولها إلى مرحلة الاكتفاء الذاتى فى الحبوب الغذائية لشعبٍ يتجاوز عدده مليارًا ومائتى مليون نسمة!
تحيةً للهند فى أفراحها وأحزانها، وكل مراحل تطورها.. دولةٌ صديقةٌ، وأمةٌ عريقةٌ، وشعبٌ عظيمٌ.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 210
تاريخ النشر: 27 يناير 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%a1%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b7%d9%91%d9%8e%d8%a7%d9%84%d8%b9-%d9%81%d9%89-%d8%a7%d9%84%d9%87%d9%86%d8%af-2/