لم تعرف الثقافة المصرية فى العقود الأربعة الأخيرة- بعد ازدهارها على يد المثقف المصرى الكبير الراحل «ثروت عكاشة»- إلا عندما تولى الفنان «فاروق حسنى» منصب وزير الثقافة، فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى، حيث عادت فى بداية عهده «دار الأوبرا» درة الدولة المصرية الحديثة، وازدادت المتاحف، وازدهرت معارض الكتب، وبلغت الثقافة المصرية شأنًا رفيعًا أمام أعين العرب والأجانب على السواء، كما ظهرت مناسبات راقية تجلى فيها نموذج رائع لقدرة المصريين على مخاطبة الخارج، بل وإبهاره أحيانًا، وأتذكر أنه عندما تولى الفنان «فاروق حسنى» منصبه قد قوبل بعاصفةٍ معادية يستكثر أصحابها عليه المنصب، وهو القادم من «باريس» و«روما» وقصر ثقافة «الأنفوشى» «بالإسكندرية»! ربما لأنهم لم يتعودوا أن يتولى «فنان تشكيلى» مثل هذا المنصب الخطير الذى يؤثر فى وجدان الشعب ويوجه سلوك الناس، وقد صمد «فاروق حسنى» لهذه العاصفة فى قوة وكبرياء، وتوالت خبطاته الناجحة فى مجالات الثقافة المختلفة، حتى وصل بـ«مصر» إلى أن تكون قاب قوسين أو أدنى من منصب «مدير عام اليونسكو»، حيث حصل على تسعة وعشرين صوتًا وفقده بصوتٍ واحد، ولقد خاض «فاروق حسنى» معارك ضارية دفاعًا عن «الحداثة»، وانتصارًا «للتنوير»، وتبشيرًا «بروح العصر»، ولم يتراجع ولم يضعف، وعندما تعرض للمكائد ومحاولات التشكيك فى قيمته الإنسانية والوظيفية، بل والفنية أيضًا، واصل طريقه لا يعبأ بالنباح ولا حتى بالعواء، فهو صاحب معدن صلب، مقاتل بطبيعته، فارس بفطرته، وأقول لهؤلاء الذين حاولوا الإقلال من قدره إننى رأيت بعينى رأسى- عندما كنت سفيرًا لبلادى فى «فيينا» - طوابير من آلاف النمساويين فى الساعات الباكرة من الصباح يقفون تحت الصقيع ودرجة حرارة دون الصفر ليدخلوا المتحف الكبير، الذى أقام عرسًا للوحات الفنان المصرى «فاروق حسنى» كنموذج رائد للفن الحديث فى ميدانه، وهؤلاء النمساويون بالمناسبة لا يعرفون «فاروق حسنى» وزيرًا، وإذا عرفوا فلا يعنيهم ذلك فى شىء، فهم يقدرون قيمة الفنان ولا ينظرون إلى شخص الوزير، ولقد اضطررت إلى إلقاء كلمة فى القاعة الكبرى لأشكر القائمين على المعرض والحاضرين من كبار الشخصيات النمساوية، مؤكدًا التواصل الثقافى والحضارى بين بلدينا، معتبرًا ذلك الفنان التشكيلى الكبير رسولاً للمحبة ونموذجًا يحمل رسالة إنسانية رفيعة من «القاهرة» عاصمة الثقافة والأدب والفن، إلى «فيينا» عاصمة الجمال والموسيقى و«ليالى الأنس»، وهنا لابد أن أشيد بأخلاق «فاروق حسنى»، فلقد رأيته عن قرب يصفح عن أعدائه، ويغفر لمن أساءوا إليه، ويترفع عن الصغائر فى كبرياء الفنان وشموخ المثقف، حريصًا على صورة وطنه ومكانة بلاده، وعندما أجبرته ظروف على مغادرة الوطن مؤقتًا لقى الرجل حفاوة بالغة فى دول الخليج العربى، تقديرًا لفنه، واحترامًا لمكانته بغض النظر عن وظيفته، ولعلى أذكر شخصيًا أن علاقتى بذلك الرجل كانت طيبة، بل ورائعة على مدى سنوات معرفتى به،
وعندما تركت مؤسسة الرئاسة وأصبحت بلا حول ولا قوة ازداد قربًا منى واتصالاً بى وسؤالاً عنى، لأن الوفاء واحدة من أبرز صفاته، وما من منصبٍ يتلاءم مع موقعى فى وزارة الخارجية وخبراتى الشخصية فى إطار التغييرات الداخلية لوزارة الثقافة إلا وتكرم الفنان «فاروق حسنى» بعرضه علىّ، فأرد عليه شاكرًا ممتنًا، مفضلاً البقاء فى وزارتى، وما تعرضت لأزمة وظيفية- وما أكثر ما استبعدت من مواقع- إلا وكان صوت «فاروق حسنى» داعمًا ومساندًا فى كل الظروف، ولعل الكل ينظر حاليًا بانبهار إلى احتفال دولة «الإمارات» العربية الشقيقة بمعرضه الفنى الأخير، والذى حظى بمراسم تفوق ما كان يناله هنا وهو فى موقع السلطة «وزيرًا للثقافة»، فالمناصب تزول ولكن الموهبة تبقى، والرصيد الإنسانى يظل فى خدمة صاحبه مهما اختلفت المواقع وتبدلت الأحوال.. تحيةً لابن «مصر» البار «فاروق حسنى»، الذى آثرت ألا أكتب عنه وزيرًا فى السلطة، ولكننى أكتب عنه الآن فنانًا متألقًا أينما «ذهب»، فالناس معادن وأبقاها «الذهب»!
جريدة المصري اليوم
15 يناير 2014
https://www.almasryalyoum.com/news/details/376226