أتاحت لى فرصة عطلة عيد الأضحى متابعة بعض برامج «التلفزة» بعيداً عن المظاهرات والاعتصامات والمؤامرات والأكاذيب أيضاً! وقد استمتعت ببرنامج قدمه الإعلامى «عمرو خفاجى» مع الناقد الفنى الموسوعى «طارق الشناوى»، ودارت الحلقة حول الأفلام السينمائية التى تجسد بطولاتنا العسكرية وانتصارات قواتنا المسلحة وجيشنا الوطنى، ولاحظ المتحدثان ـ وأشاركهما الرأى تماماً ـ قلة الأفلام التى عالجت دور الجيش المصرى خصوصاً فى حرب 1973 والتدخلات السياسية لحجب بعضها واختصار بعضها الآخر، لذلك جاءت وثائق «حرب أكتوبر» التاريخية خالية من أعمال درامية كبرى تجسد ذلك الانتصار الكبير. وبعد مشاهدة تلك الحلقة المثيرة والممتعة فى ذات الوقت بدأت أطالع صحف الصباح فوجدت فيها نعياً لواحد من الأبطال العظام لتلك الحرب الظافرة وأعنى به اللواء «عادل يسرى» صاحب رحلة «الساق المعلقة»، الذى عرفتُه عن قرب عندما جاء إلى «لندن» لاستكمال علاجه حيث كنت دبلوماسياً فى سفارتنا هناك مع بداية السبعينيات، ولقد استمتعت بصحبته كثيراً وتوطدت بينى وبينه أواصر صداقة استمرت لسنوات خصوصاً عندما كان يترأس إحدى الشركات المهمة فى القطاع العام حتى فرَّقت بيننا سبل الحياة وتصاريف الزمان ولكننى ظللت أتذكر دائماً صلابته وروحه المعنوية العالية بل الساخرة أحياناً وهو يتحدث عن المعارك التى خاضها والإصابة التى تعرض لها وأدت إلى بتر ساقه ورغم إصابته المروعة إلا أنه واصل القتال فى جسارة وبسالة شهد له بها الجميع. ولقد كان الرجل يملك درجة عالية من الاستنارة السياسية والوعى الوطنى جعلته مدركاً لأبعاد البطولات المصرية التى طمرتها السنون وطوتها صفحات النسيان، ولابد أن أعترف بأننى شعرت ببعض الرضا مؤخراً أثناء حضورى الحفل الذى أقامته القوات المسلحة فى الذكرى الأربعين لـ«حرب أكتوبر» حيث شاهدت لأول مرة عدداً كبيراً من المحاربين القدماء، وكل منهم يملك صفحة ناصعة فى تاريخ العسكرية المصرية، وقد بدأ بعضهم يقص علينا فى هدوء وتواضع البطولات الخارقة التى سطروها بدءاً من «حرب الاستنزاف» الباسلة ثم معركة «رأس العش» وإغراق المدمرة «إيلات» حتى بناء «حائط الصواريخ»، ولا شك أن لدى كل منهم قصة بطولة تصلح لأن تكون فيلماً وثائقياً يشهد ببسالة المقاتل المصرى، ولقد حضر بعضهم على كرسى متحرك وقد تقدم بهم العمر ونسيتهم الدولة المصرية طويلاً، وآن الأوان لأن يحصل كل منهم على استحقاقه، لا أقول مادياً فقط ولكن معنوياً وأدبياً أيضاً، فقد تعودنا التركيز على الأسماء الكبيرة وتجاهلنا البطولات الحقيقية. لقد رحل «عادل يسرى»، الذى ظل لفترات طويلة مهموماً بـ«الأطراف الصناعية» و«الأجهزة التعويضية»، مواصلاً حياته الطبيعية ومؤدياً عمله فى القطاع المدنى بكفاءة ونزاهة واقتدار بينما كتابه عن الرحلة المقدسة لـ«الساق المعلقة» يبدو ملء السمع والبصر. وبهذه المناسبة فإننى أطالب بالحياد الكامل والدقة الصارمة عند تدوين تاريخنا العسكرى، إذ لا أتصور أن تأتى أعياد «أكتوبر» كل عام بأسماء جديدة تطفو على السطح وأخرى تغوص فى أعماق التجاهل والنسيان! ولا أتصور أن تكون هناك سنوات نتغنى فيها بـ«الضربة الجوية» وبطولة قائدها «حسنى مبارك» ثم ننتقل فجأة إلى تجاهل دوره ونخلط بين تاريخه العسكرى المشرف وتاريخه السياسى المثير للجدل، ولا أتصور أن نلقى باسم لامع وقامة عالية مثل «سعدالدين الشاذلى» ضمن الصفحات المنسية فى تاريخنا العسكرية ثم نتذكره فجأة بعد إنكار لدوره بل هجوم عليه عبر عدة عقود، بينما كان للرجل فى الحقيقة دور رئيس فى المعركة وقبلها عند الإعداد الدقيق لها. إننى أنتهز فرصة رحيل الضابط البطل «عادل يسرى» لأدعو إلى فتح ملفى «حرب الاستنزاف» الجسورة و«حرب أكتوبر» المجيدة حتى يتسق تاريخنا العسكرى وتدرك الأجيال الجديدة أننا بحق «خير جند الأرض».. والمجد للشهداء فى النهاية، والشرف كل الشرف للمقاتلين و«لا نامت أعين الجبناء»، ورحم الله صاحب الساق المعلقة ابن العسكرية المصرية الشامخة «عادل يسرى».
جريدة المصري اليوم
23 أكتوبر 2013
https://www.almasryalyoum.com/news/details/342872