هو عازف العود الأول فى العالم العربى، ابن الرافدين، يعتز بهويته العربية قبل جنسيته «العراقية»، متزوج من سورية، قضى سنوات من عمره فى العاصمة «التونسية»، ثم شد الرحال إلى عاصمة الفن «القاهرة»، حقق شعبية مدهشة بموهبته الراقية وشخصيته الجذابة وعلمه الغزير فى فروع الموسيقى والطرب، بل تجاوزهما إلى «الأدب» و«السياسة» أيضًا، ولا ننسى حوارنا فى القصر الجمهورى «بتونس» قرب نهاية 2012، ضيوفًا على مائدة غداء رئيس الجمهورية «د. منصف المرزوقى»، حيث اصطحبنا للقائه السفير العراقى المفكر «د. قيس العزاوى» كأعضاء فى الصالون العربى، وبيننا ذلك الموسيقار الواعد فارس العود الذى يعشقه كل من استمع إليه، وقد سمعت «نصير شمّة» يومها يتحدث فى السياسة بعمق واقتدار لا يقل عن تمكنه فى عالم الموسيقى والألحان، وأتذكر فى النصف الثانى من تسعينيات القرن العشرين أن ذلك الفنان قد هبط العاصمة النمساوية، فخرجت له الجالية العربية عن بكرة أبيها فى شوق ولهفة مع ترحيب وإعجاب، وكنت يومها سفيرًا لبلادى هناك، وسعيت إليه وقضينا مع أوتار عوده ليلة رائعة فى حفل كبير احتشد فيه المئات من المصريين والنمساويين، يشاهدون ويستمعون فى انبهار إلى نغمات العود فى يد «نصير شمة»، وعندما اكتشف الوزير اللامع الفنان «فاروق حسنى» قيمة ذلك الفنان العراقى العربى رأى أن يتبنى مدرسة معاصرة بقيادته لفن العود، وزاد على ذلك أن جعل أحد قصور «القاهرة الفاطمية»، التى جرى تجديدها، مقرًا لهذه المدرسة الواعدة بقيادة ذلك الفنان المتفرد تحت مسمى «بيت العود»، ولقد حضرت فيه حفلاً منذ فترة وجيزة بحضور السفراء العرب فى «القاهرة» وعدد مرموق من الشخصيات العربية العامة، ورأينا كيف يدرِّب «نصير شمة» الشباب العربى على الفن الجميل للعود العربى الأصيل، باعتبارها آلة شرقية نفتخر بها دائمًا ونعتز بانتمائها إلينا، ويحظى «نصير شمة» بشعبية واسعة فى أرجاء الوطن العربى، ولقد رأيت بعينى الشباب والشابات يندفعون نحوه فى شوارع «تونس» العاصمة بعد ثورتها الرائدة، وكيف جرى استقباله فى أى مكان يذهب إليه احترامًا وتوقيرًا، ويتمتع «نصير شمة» بحس فنى رفيع حتى فى تذوق تلاوة «القرآن الكريم»، وهو يحرص على حضور ذكرى الشيخ القارئ الراحل «مصطفى إسماعيل»، ويتحدث فيها بعمق ورصانة عن علم القراءات والتجويد والمدارس الإسلامية المختلفة فى ذلك وطبيعة الأصوات والمذاهب الفنية فى القراءة، وهو الذى قال لى إن الشيخ «مصطفى إسماعيل» عندما قرأ القرآن فى «الأعظمية» «ببغداد» وبدأ بتلاوة الآية الكريمة «ق» وصعد بها إلى السماء ارتفاعًا طارت الحمائم من فوق قبة المسجد المعظم من قوة الصوت وجلال الآيات.
هذه شخصية فارسٍ عربى للفن المعاصر تقدم الصفوف فى ثبات ولم ينس وطنه الأصيل «بين النهرين»، وظل مؤمنًا بالعراق عربًا وكردًا، شيعة وسنة، مسلمين ومسيحيين، فكان محل التوقير الدائم والاحترام الكامل والإعجاب الشديد، إذ ليس المهم أن تملك الموهبة وحدها، ولكن أن تضيف إليها الشخصية الرصينة والجاذبية الإنسانية التى تعطى لصاحب الذكاء الاجتماعى تألقًا وتفردًا، وهكذا تكون عبقرية الفنان من طراز «نصير شمة».
جريدة المصري اليوم
2 أكتوبر 2013
https://www.almasryalyoum.com/news/details/342443