لى سؤال تقليدى فى بداية الاختبار الشفهى عندما يتقدم أحد خريجى كليات الطب للوظيفة الدبلوماسية فأبادره قائلاً: من هما الطبيبان اللذان أصبحا وزيرين للخارجية المصرية أحدهما فى «العصر الملكى» والآخر فى «العهد الجمهورى»؟ ولقد عرف كثير من المتقدمين للامتحان إجابة هذا السؤال الطريف، والإجابة بالطبع هى «حافظ عفيفى باشا»، الذى كان وزيراً للخارجية، كما كان سفيراً فى «لندن»، ومستشاراً للملك «فاروق»، ورئيساً لديوانه، أما الطبيب الآخر فهو «مراد غالب» الذى كان وزيراً للخارجية وقبلها سفيراً فى «الكونغو»، ووكيلاً للخارجية المصرية، ثم سفيراً لدى «الاتحاد السوفيتى السابق» طوال فترة الستينيات من القرن الماضى، حيث ذاع صيته وشاع اسمه مرتبطاً بزيارات الرئيس الراحل «عبدالناصر» إلى «موسكو»، بما فيها الزيارات الأخيرة التى غلب عليها العلاج بعد «نكسة يونيو 1967»، عندما استبدت الأزمة الصحية بذلك المناضل التاريخى «جمال عبدالناصر»، وقد استعان الدكتور «مراد غالب» ـ رحمه الله ـ فى دوره الدبلوماسى بقرينته الفاضلة «شكرية هانم»، التى كانت خير عون له فى أداء وظيفته وتجويد مهمته، ولقد بدأ الرجل علاقته بوزارة الخارجية عندما عُيّن سكرتيراً أول فى بداية الخمسينيات لكى يكون طبيباً مرافقاً لـ«عزيز باشا المصرى»، رئيس أركان حرب الجيش، المفتش العام الأسبق، الذى أطاحت به سلطات الاحتلال البريطانى بسبب ميوله المتعاطفة مع النازى لا حباً فى «هتلر» ولكن كراهية فى الإنجليز، وهو صاحب المغامرة الشهيرة بالطائرة التى سقطت قرب «قليوب»، والتى كانت تقوم بمحاولة للوصول خلف خط الحلفاء لمقابلة القائد الألمانى «روميل» دعماً لقوات المحور، وهى الطائرة التى كان فيها «حسين ذو الفقار صبرى»، الذى أصبح نائباً لوزير الخارجية المصرية بعد الثورة، كما أن رجل الدولة الحصيف «أنور السادات»، الذى كان يعيش سنوات الكفاح السياسى الحر متنقلاً بين القرى والمدن المصرية مفصولاً من الخدمة العسكرية من أجل اشتغاله بالعمل الوطنى، الذى أصبح رصيداً تاريخياً مضيئاً له، لقد كان «أنور السادات» شريكاً فى مغامرة «عزيز المصرى» وقريباً منه، ونعود الآن إلى «مراد غالب» ذلك الطبيب الشاب الذى ذهب إلى «موسكو» مرافقاً لـ«عزيز باشا المصرى» بعد قيام الثورة بأقل من عامين فى وقت اعتذر فيه «عزيز باشا» عن عدم قبول منصب رئيس الجمهورية إبان أزمة نجيب ـ عبدالناصر فى بداية سنوات الثورة، وقد اكتسب «مراد غالب» خبرة الكبار مبكراً وعايش أحداث الثورة منذ شبابه، فكان طبيعياً أن يختاره «عبدالناصر» ذات يوم سفيره الموثوق بقدراته وولائه فى العاصمة الأهم حينذاك «موسكو»، التى كادت تكون بمثابة عاصمة «الخلافة» بالنسبة لمصر، التى كانت تبنى «السد العالى» وتواجه الغرب والولايات المتحدة خصوصاً بضراوة شديدة، فكان «مراد غالب» يتردد على «الكرملين» للقاء القادة السوفييت ووزير الخارجية العتيد «أندريه جروميكو» مرة فى الأسبوع على الأقل، وقدمت المدرسة الدبلوماسية فى «موسكو» نموذجاً تعتز به الخارجية المصرية فى كل الأوقات، وبلغ من حصافة «مراد غالب» أنه قام بتغطية الوضع الصعب لدبلوماسى مصرى جرت محاولة فاشلة لتجنيده لصالح الـ«كى. جى. بى» وأعاده إلى «القاهرة» آمناً، وهو الذى أنزل دبلوماسياً آخر كان متهماً بالاتجار فى الآثار الروسية والأيقونات النادرة والسجاجيد الفاخرة دون أن يؤدى ذلك إلى مشكلة دبلوماسية أو حساسية لدى الطرف الروسى، وعندما تولى الرئيس الراحل «السادات» حكم البلاد وأراد أن يأمن شر «الروس»ـ الذين أطاح بهم فيما بعدـ اختار «مراد غالب» لكى يكون وزيراً للخارجية بعد توقيع «معاهدة الصداقة» بين «السوفييت» و«القاهرة»، وهو أمر كانت تتطلع إليه «موسكو» منذ سنوات حكم «عبدالناصر»، وتردد الدوائر الدبلوماسية أن «مراد غالب» كان دبلوماسياً هادئا كتوماً، وسياسياً واعداً، وقارئاً جيداً، لقد رأيته أول مرة سفيراً، ثم قابلته فى «لندن» وزيراً، ثم توثقت صلتى به فى سنوات عمره الأخيرة محاضراً لامعاً ومحللاً سياسياً، حتى كان آخر لقاء لنا مع الرئيس الإريترى «أسياس أفورقى» فى «النادى الدبلوماسى» تحت مظلة «المجلس المصرى للشؤون الخارجية»، ويومها دخلنا فى حوار طويل تجلت فيه العقلية العلمية لـ«مراد غالب»، ذلك الطبيب الناجح، فارس الدبلوماسية المصرية الذى ترجّل ليلحق بركب الراحلين من أبناء الوطن العظام فى كل عصور تاريخنا الطويل.
جريدة المصري اليوم
15 مايو 2013
https://www.almasryalyoum.com/news/details/197079