ابن بار للوطن المصرى العريق، عاش سنوات عمره الأخيرة يصارع المرض اللعين ورغم ذلك لا يتوقف نشاطه عن العمل الدؤوب والفكر المتوهج والإسهام الإيجابى فى أعمال «البنك الدولى» الذى كان يشغل وظيفة «النائب الأول» لرئيسه، فلقد كان متخصصاً فى الشؤون القانونية والعلاقات الدولية، وكلما دار الحديث حول مؤسسات «بريتون وودز» تذكرت الدكتور «إبراهيم شحاتة» الذى شغل أرفع منصب فى إحداها، وعندما كنت سفيراً لمصر فى «فيينا» وأتردد بحكم منصبى على مقر «منظمة صندوق الأوبك» كنت أرى باعتزاز وفخار صورة «د.إبراهيم شحاتة» تتصدر مدخل المبنى العريق فى العاصمة النمساوية فهو الرئيس المؤسس لتلك المنظمة، وما من مناسبة جاء فيها ذكر اسمه فى محفل دولى أو منظمة عالمية إلا وتحدث الجميع عنه بالإكبار والإجلال والتقدير، ولا عجب فهو واحد من أبناء شرق دلتا النيل ينتمى إلى عائلة حافلة بالكفاءات أعرف منهم الراحل الوزير «د.عبدالرحيم شحاتة» و«د.صلاح شحاتة» والأستاذ «عصام شحاتة» وغيرهم ممن يتميزون بقوة الشخصية ونزاهة اليد،
وكلما رأيت السيدة الفاضلة زوجته أو التقيت بالموهوبة ابنته التى تصدر مجلة دوريةً ناجحة تذكرت الرجل وقيمته العالية وصلتى الطيبة به على مر السنين، ولقد تعرفت بالرجل ذات يوم من خلال الدبلوماسى المعلم «أسامة الباز» الذى كان صديقه لعدة عقود ـ وما أكثر من تعرفنا عليهم من الشخصيات الدولية والمصرية من خلال الدكتور «أسامة الباز» شفاه الله ـ ومنذ ذلك اليوم أدركت أننى أمام شخصية استثنائية بكل المعايير علماً وخلقاً وكبرياءً وترفعاً وذكاءً وثقافةً وفكراً، وعندما أصدر «د.إبراهيم شحاتة» كتابه القنبلة (وصيتى لبلادى) حين أدرك أن موعد الرحيل يقترب وأن عليه أن يترك وثيقة علمية لوطنه الأم مهما ابتعدت الأسفار وتعددت الأقطار فمصر لا ينساها أبناؤها أبداً،
ولقد احتوى الكتاب ملفات فكرية واضحة حول الاقتصاد والسياسة، حول المجتمع والدولة، حول الحاضر والمستقبل، إننا حين نتذكر الراحل الدكتور «إبراهيم شحاتة» فإننا نتذكر الخبرات المصرية الرصينة فى المجالات المختلفة، الذين اعترفت بهم المنظمات والمحافل فى أنحاء العالم، وقدَّرتهم الدنيا بلا حدود إلا بلدهم الأم التى لم تتمكن من الإفادة منهم وتوظيف قدراتهم المتميزة لخدمة ظروفها الصعبة وحل مشكلاتها المعقدة، ألم يكن الأجدر بمصر أن يكون «د.إبراهيم شحاتة» رئيس وزرائها فى ثمانينيات القرن الماضى أو حتى تسعينياته؟!
إننى متأكد أنه كان يمكن ـ لو أطلقت يده ـ أن يفعل فى «مصر» ما فعله «مهاتير محمد» فى «ماليزيا» ولكن مشكلتنا دائماً يصدق عليها القول العربى المأثور (شاعر الحى لا يطربه!) فما أكثر الكفاءات التى رحلت والخبرات التى ذوت بسبب حالة التجريف البشرى التى تعرضت لها «مصر» فى العقود الأخيرة وهى التى دفعت إلى الصفوف الأولى بمن هم أقل كفاءة وأكثر ولاءً وقذفت فى غياهب النسيان بأصحاب التجربة العريضة والفكر العميق والرؤية المتميزة، لقد كانت مشكلتنا دائماً هى أن «الحظوة» تسبق «الخبرة» فضلاً عن أن «ذكاء المرء محسوب عليه» يدفع ضريبته إقصاءً وإبعادًا بل تشويهاً لقيمته ومكانته أحياناً!
.. ذلكم هو الدكتور «إبراهيم شحاتة» الذى يجب أن نضعه فى مكانته الحقيقية ابناً رفيع القدر من أبناء الكنانة وشخصية دولية جليلة المكانة لدى كل من عرفها، ورغم أننا كنَّا نتوقع رحيله القريب فى سنواته الأخيرة إلا أنه عندما نعى الناعى أن «د.إبراهيم شحاتة» قد لقى وجه ربه أدركت لحظتها بصدق أن عظيماً من قومى قد مات!
جريدة المصري اليوم
24 أبريل 2013
https://www.almasryalyoum.com/news/details/196445