لقد تبوأ أرفع منصب قضائى فى البلاد فكان رئيساً لمحكمة النقض، ومع ذلك لم يأخذ حقه من التقدير الذى يناسبه، والتكريم الذى يستحقه، فلقد كان رجلاً شديد المراس، صلباً فى مواقفه، متمسكاً بحرفية المبادئ التى يعمل عليها رجل القضاء، وقد يختلف معه الكثيرون، إلا أننى شاهد حقٍ وعدل مثل غيرى على أن الرجل لم يكن بوقاً لنظام الحكم، ولا أداةً له، وإنما كان يتصرف من وحى ضميره وما يؤمن به، وإذا كان قد اتخذ موقفاًـ قد يختلف معه الكثيرون ـ حين كان داعماً لإحالة القاضيين الجليلين «هشام البسطويسى» و«محمود مكى» إلى التحقيق، فإن منطلقه فى ذلك.
على ما أعلم ـ كان رغبته فى إبعاد القضاء عن العمل السياسى، والاحتفاظ به على قمة الحياة العامة فى البلاد، خصوصاً أن المستشار «فتحى خليفة» لم يكن رجل سياسة وإعلام، بل جاء إلى موقعه بالأقدمية المطلقة، وكان حريصاً على الترفع عن الصغائر أو الهبوط بمستوى القضاء المصرى من عليائه، ولقد رأيته ذات مرة فى حفلٍ عام دعا إليه السفير السعودى السابق، د.هشام ناظر، وكان المستشار فتحى خليفة يبدو لى مترفعاً رفعة القضاء، هادئاً هدوء العلماء، صامتاً فى عزة وكبرياء، وتحدثت معه يومها فى كلمات قليلة أدركت معها مكانة الرجل وقيمته وعزوفه عن المناصب وابتعاده عن بريق السلطة، ثم رأيته بعد ذلك بعدة سنوات فى سرادق عزاء، فكان شارداً مهموماً لا يكاد يعرف أحداً حوله، ولقد حرمه النظام السابق من أى منصب تكميلى بعد التقاعد، أسوة بزملائه، ربما لأنه لم يكن على وفاق كامل مع التوجهات السائدة حينذاك، فضلاً عن أنه لم يكن من رجال النظام فى السلطة القضائية، لذلك دفع المستشار فتحى خليفة الثمن مرتين!.
مرة مع النظام القائم، ومرة أخرى فى مواجهة منتقديه داخل السلطة القضائية ذاتها، لكن الرجل كان خلوقاً بطبعه، عزوفاً عن دخول المعارك بفطرته، ولقد أراحنى كثيراً أن رجلاً من هذا الطراز كان على رأس السلطة القضائية عندما كانت «محكمة النقض» تفحص الطعون فى انتخابات عام 2005، وكنت طرفاً فى أحدها، فأنصفتنى المحكمة فى عهده، وإن كانت التقارير قد صدرت بعد إحالته للتقاعد.
إننا أمام نموذج شامخ لرجل قضاء لم يلهث وراء المناصب، ولم يغازل السلطة، ولم ينجرف وراء الإعلام، لكنه انزوى بعد لحظة الانصراف فى هدوء الزاهدين وصمت الشرفاء، وقد يتساءل البعض: لماذا أختار أحياناً شخصيات تبدو بعيدة عن الضوء؟ والإجابة عن ذلك موجودة فى السؤال ذاته، فأنا أريد أن أقدِّم للأجيال الجديدة نماذج مشرقة من جميع المجالات، وأقول لهم إنه لا يصح إلا الصحيح دائماً، وإن الشرف أنقى وأبقى، وقديماً قالوا: إنك تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت أو تخدع بعض الناس كل الوقت، لكنك لن تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت!
والمخلوق البشرى لم يعش الدهر كله، ولم يعش فى كل مكان، لذلك كان طبيعياً أن يستلهم خطى سابقيه، وأن تكون القدوة هى نبراس الأجيال الجديدة، وهى فى طريقها الطويل، مهما كانت المصاعب والتحديات. إن المستشار فتحى خليفة نموذجٌ رفيعٌ للقاضى الملتزم الذى لم تلوثه السياسة، ولم تنل منه آثامها، ولم يحمل شيئاً من خطاياها.
جريدة المصري اليوم
10 أبريل 2013
https://www.almasryalyoum.com/news/details/195983