إننى لا أفرض على القارئ هماً شخصياً ولكننى أقدم له نموذجاً مصرياً لأن صديقى الذى رحل عن عالمنا منذ أيام هو ظاهرة فريدة يؤكدها كل من عرف «شوقى أبوعلى» ذلك الشاب النحيل الذى التقيته فى مدخل كلية «الاقتصاد والعلوم السياسية» ذات صباح عام 1962 وكان قد أمضى عاماً أو بعض عام للدراسة فى جامعة «حلب» فى ظل دولة الوحدة «الجمهورية العربية المتحدة» وما هى إلا شهور قليلة حتى اكتشفت أن «شوقى» هو النجم اللامع الذى يملأ ملحق «كلية الحقوق»- حيث كان ذلك هو المقر الأول لكلية «الاقتصاد»- حيوية وصخباً وتوهجاً، كما كان رئيساً لأسرة «الشباب» بالكلية التى كان رائدها أستاذنا الراحل «محمود خيرى عيسى» أمام أسرة «النيل» التى كان يرأسها زميلنا الراحل «طه خليل»- أول رئيس لاتحاد طلاب الكلية وهو الذى تسلمت المهمة بعده مباشرة- وكان رائد أسرة «النيل» هو أستاذنا الدكتور «عبدالملك عودة» أمد الله فى عمره، وكانت تلك الحقبة من ستينيات القرن الماضى حافلة بالأحداث السياسية والثقافية وكان «شوقى أبوعلى» بطل كل الحفلات ونجم معظم الرحلات إلى أن تخرجنا من الكلية وتعددت بنا الطرق وباعدت بيننا المواقع،
فقد ذهب مباشرة إلى «الولايات المتحدة الأمريكية» هو وقرينته الفاضلة حفيدة الكاتب الصحفى الكبير صاحب الجهاد «توفيق دياب» ثم حط الرحال بعد سنوات فى مدينة «لندن» حيث كنت أعمل فقضينا فى عاصمة الضباب سنوات لا أنساها إذ إن الراحل «شوقى أبوعلى» كانت لديه شبكة اتصالات واسعة ومجموعة من العلاقات مع شخصيات رفيعة من أنحاء العالم فى مجالات السياسة والإعلام والفن بكل فروعه، وحدث ذات يوم أن شكوت إليه من أن درجتى الصغيرة فى «السلك الدبلوماسى» بسفارةٍ كبيرة لا تساعدنى على إقامة علاقات دبلوماسية وإجراء مقابلات مع أعضاء «وزارة الخارجية البريطانية» الذين يستأثر بهم زملائى الأقدم فى السلك والأعلى فى الدرجة فقال لى على الفور أين أنت مساء الجمعة القادم لتتناول العشاء أنت وزوجتك بدعوة منى أنا وزوجتى وسوف يكون معنا عضواً من الخارجية البريطانية وقرينته؟ فقبلت الدعوة متوهماً أنه سوف يقدمنى إلى ملحق أو سكرتير ثالث من جهاز الدبلوماسية البريطانية، ولكن المفاجأة المذهلة لى ولزوجتى أن ضيفه الآخر الذى يريد أن يعرفنى عليه هو «سير أنتونى بارسونز» مساعد وزير الخارجية البريطانى وسفير المملكة المتحدة الأسبق فى «طهران» ثم مندوبها فى «الأمم المتحدة» وقد أسقط فى يدى لأننى كنت أعلم أن سفيرنا قد طلب موعداً معه منذ أسبوع ولم يتلق رداً بعد! وازدادت دهشتى عندما وجدت أن العلاقة بين «وكيل الخارجية البريطانية» و«شوقى» زميل دراستى هى علاقة حميمة مرفوع منها التكليف حتى إن «شوقى» يناديه باسمه مجرداً قائلاً «تونى»، ودار بيننا حديث حصلت فيه على معلومات مهمة للغاية من «وكيل الخارجية البريطانية» مما جعل وزارة الخارجية المصرية تشكك فى مصداقية المقابلة بسبب صغر درجتى الدبلوماسية وخطورة المعلومات الواردة فى تلك المقابلة الفريدة، وذات يوم آخر بعد ذلك بسنوات كنت فى «نيويورك» والتقيت شوقى هناك وقال لى أتريد أن ترى شخصاً معيناً بذاته؟ فقلت له على سبيل التعجيز أريد أن أرى «د. كيسنجر» فرفع سماعة التليفون واتصل بسيدة أمريكية اسمها «جلوريا» لترتيب اللقاء فى اليوم التالى ولكننى رجوته إلغاء ذلك خوفاً على تداعيات مثل هذه المقابلة على موقعى الوظيفى حينذاك، وما أكثر من تعرفت بهم من مصريين وعرب وأجانب من خلال صديق عمرى الراحل فهو الذى عرفنى بصديقه المخرج العالمى «يوسف شاهين» وكبير أمناء الرئيسين «عبدالناصر» و«السادات» المرحوم «صلاح الشاهد» وعدد من الأمراء العرب ومشايخ الخليج المرموقين بالإضافة إلى عشرات الأجانب خصوصاً فى العاصمة البريطانية عندما عشنا فيها معاً وكان يودعنى أحياناً يوم الثلاثاء على موعد لقاء آخر مساء الخميس من نفس الأسبوع لأكتشف أنه ذهب إلى «نيويورك» وعاد بين اللقاءين!
وهو الذى أقنع إدارة صحيفة مرموقة هى «الفايننشيال تايمز» بإقامة مؤتمرها الاقتصادى السنوى فى أحد أعوام ثمانينيات القرن الماضى بالعاصمة المصرية تشجيعاً للاستثمار وتحسيناً لسمعة الاقتصاد المصرى، كما شارك فى توثيق العلاقات العربية البريطانية من خلال عملنا سوياً فى «غرفة التجارة العربية البريطانية» «بلندن»، حيث كنت أعمل بإذن من الخارجية المصرية لاستكمال دراستى للدكتوراه لمدة عامين بعد انتهاء خدمتى الرسمية فى «السفارة المصرية».. ذلك هو النجم الذى هوى، والفارس الذى ترجّل، بعد أن كان درة جلساتنا ومصدر بهجتنا على امتداد سنوات العمر لجيل أنتمى إليه يزهو بأسماء أخرى من أمثال «على الدين هلال» و«جودة عبدالخالق» و«حاتم صادق» و«هدى عبدالناصر» و«منير عبدالنور» و«مخلص قطب» و«ممدوح عباس» وأجيال أخرى تعاقبت بعدنا أتذكر منها العالم الجليل «أحمد يوسف» والسياسى المرموق «أسامة الغزالى حرب» والمفكر الكاتب «عبدالمنعم سعيد» والمدافعة عن الحريات وحقوق الإنسان «منى ذو الفقار».
إن الحياة بعد رحيل «شوقى أبوعلى» تختلف عندى عنها فى حياته، فلقد خبا النجم، وخفت الضوء، ورحل رفيق العمر إلى حيث لا يعود الناس!
جريدة المصري اليوم
16 يناير 2013
https://www.almasryalyoum.com/news/details/193294