ثقافات آسيا
قرأت في سنوات الطفولة قصة بعنوان (مقبرة الأفيال) التي كانت مقررة علينا في المدرسة وعشت أجواءها وارتبطت بشخوصها وتفهمت البيئة المحيطة بها، بل وبدأت أشعر بخصوصية الشخصية الآسيوية خصوصًا فيما يتصل بعلاقتها بعنصر الزمن، وكيف أن الديانات الأرضية تبدو وكأنها ثقافات دنيوية أكثر منها أطروحات روحية، وقد ظللت أتابع أخبار الصين والخلاف العقائدي مع الاتحاد السوفيتي السابق واقتنعت بأن المسألة ليست أيديولوجية ولكنها صراع قومي قديم نجم عن الجوار الجغرافي، ثم شاءت الأقدار أن أجدني مرشحًا للعمل في سفارة مصر «نيودلهى» وقد كنت عائدًا قبلها بعام أو بعض عام من لندن وكان الأمر صدمة لي لأن سمعة الهند منذ عدة عقود لم تكن إيجابية كما هي الآن، وقد ذهبت إلى الدكتور بطرس غالي وزير الدولة للشئون الخارجية حينذاك محتجًا فقال لي: إنني أدرى بمصلحتك، وسوف تذكر سنوات الخدمة في الهند بكل الاحترام والارتياح والسعادة، ويبدو أن ذلك هو ما حدث بالفعل فلقد تعلمت في سنوات أربع في العاصمة الهندية ما لم أتعلمه في السنوات الخمس والثلاثين السابقة على ذلك، واستهوتني في ذلك الوقت دراسة الثقافات الآسيوية والفلسفات المختلفة التي تمثل في مجملها روح تلك القارة الكبرى، ولقد اكتشفت أن الهند تكاد تكون هي آخر دول غرب وجنوب آسيا المتاخمة مباشرة للحدود المشتركة مع ما نسميه الهند الصينية، فكلما توغلنا شرقًا يبدأ التأثير الهندي في التراجع وتحل محله المؤثرات الصينية على البشر والحجر، لقد كنت أتأمل فلسفات الطوائف وطرائق التعبير لدى كل منها وعمليات التأثير والتأثر المتبادلتين بين البوذية والهندوكية في جانب، والإسلام والمسيحية في جانب آخر وشعرت بحالة التميز الواضح في الثقافات الآسيوية وقدرتها على صياغة شكل مختلف للحياة رغم تعدد الديانات وتنوع الثقافات وزحام الفلسفات، واكتشفت أن الثقافة الهندية تختلف بالضرورة عن الصينية، والاثنتان تختلفان عما تراه اليابان على الجانب الآخر، ولقد ظل العرب متعلقين بكثير من مظاهر الحياة الآسيوية خصوصًا بالنسبة للتواصل بين بعض دول الخليج وبعض الولايات الهندية القريبة منها في أسلوب الحياة، ويهمني هنا أن أطرح الملاحظات الآتية:
أولًا: إن آسيا هي مستودع الخرافات الكبرى والأساطير الشهيرة التي تنتقل من جيل إلى جيل، والآسيوي كما هو معروف هادئ المظهر ولكنه عندما يثور يصبح الأمر كالبركان، وقد عرفنا في الهند طبقة المنبوذين أو الذين لا يمسهم أحد لفقرهم وانعدام دورهم وقد كانت هذه الظاهرة موضع تندر من كل من يزور الهند ولا يدرك عمق فلسفتهم الدفينة إلا من درس أسلوب حياتهم وعاش في أحوالهم سنين عددًا لأن للهند مذاقا خاصا مثلما هو لكل بلد آسيوي.
ثانيًا: إن علاقة الإنسان الآسيوي بعامل الزمن علاقة تدعو إلى الدهشة، فالآسيوي يتصرف أحيانًا وكأن أمامه أبد الدهر، كما أنه لا يلقي بالًا لما يحدث حوله لأن أعصابه دفينة وقدرته على امتصاص الغضب الناجم عن المواقف المستفزة تبدو قدرة رائعة.
ثالثًا: إن نظرة أبناء القارة الآسيوية لمجمل تطورات العلاقات الدولية تثير هي الأخرى الدهشة لأنه لا يعني قياداتهم إلا معيار الولاء والإخلاص وتبقى حركة الجماهير في النهاية هي صانعة القرارات، ولقد شهدت إبان وجودي في الهند مظاهر لا تخطر على بال وهي تؤكد في مجملها أن الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان، ولقد كانوا يتحدثون إلينا دائمًا قائلين إننا وأنتم قد جئنا من ذات المحصلة بما لها وما عليها.
إن آسيا هي القارة الأم وهي معقل الثقافات الحقيقية ومصدر الانتماءات المعروفة، لذلك فإننا نستمد جزءًا كبيرًا من توجهاتنا السياسية وثقافتنا العامة من هذه الرقعة في العالم، وقديمًا كنا نقول على سبيل التندر (أنت هندي)! بينما الأمر قد أصبح الآن مديحًا مباشرًا، فالهند دولة صناعية، ودولة نووية، ودولة عسكرية على طراز فريد، فضلًا عن أنها بلد الكفاءات.. هذه لمحات من حياتي لدى بعض القوميات الآسيوية وما تحفل به من غرائب المشاهدات وتناقض الفئات، إن آسيا قارة السحر والجمال، على طرفها الغربي نزلت الديانات السماوية، وفي طرفها الشرقي والجنوبي ولدت الديانات الأرضية فالبوذية والهندوكية وغيرهما من المعتقدات الدينية هي الابنة الشرعية لهذه القارة العجوز، قارة (كونفوشيوس وطاغور وغاندي ومحمد إقبال وماوتسي تونج وشواين لاي ونهرو)، على أرضها تحدث موسى الكليم إلى ربه من طور سيناء في الجناح الآسيوي للدولة المصرية، لهذه المعاني وكل هذه الأسباب ألفت النظر إلى الاتجاه شرقًا وأترحم على الرائد الذي كان ينادي بذلك وهو الراحل الدكتور أنور عبد الملك.. إنها آسيا قارة العجائب والغرائب التي يعيش فيها أغلبية المسلمين حاليًا جنبًا إلى جنب مع ديانات سماوية وأرضية في عناق بشري ليس ورديًا في كل الأحوال، ولكنه تعايش مشترك على الدوام، إنها قارة الغابات والجبال والسهول والوديان، قارة يتعايش فيها الإنسان مع الحيوان في لحظة فريدة من الزمان والمكان، ولقد رأيت بعيني في الهند (الفأر) يجري نحو الإنسان بلا خوف أو فزع، وشهدت (الثعبان) يعيش وسط الأسرة أليفًا كواحد منهم، إنها متحف الإنسانية وقاعدة انطلاق البشرية أو كما قال ( البيروني ) فيها كل فضيلة مطلوبة وكل رذيلة مذمومة، إنها ملخص الدنيا ومركز الكون.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/680854.aspx