من الجيل المسروق إلى الجيل المحروق
كتبت منذ سنوات عن الجيل المسروق وعبرت عنه ـ فى تشبيه معماري ـ بالدور المسحور فى البنايات الضخمة حيث لا يقف المصعد عنده ويتجاوزه دائماً نتيجة ظروف سياسية أو تحولات اجتماعية وكنت أقصد ذلك الجيل الذى بدأ خطوات حياته العملية مع نكسة يونيو فى مثل هذه الأيام منذ أربعين عاماً وكيف أن ذلك الجيل قد سحقته آثار النكسة وتداعياتها فى مطلع شبابه وبدايات تفتحه على ما يدور حوله حتى قيل لأبناء ذلك الجيل دائماً أنكم لا تزالون صغاراً وأمامكم الطريق طويل وعندما اكتملت امكاناتهم وتراكمت خبراتهم ونضجت انتماءاتهم قيل لهم أن المرحلة قد تجاوزتكم ونحن نتعامل مع جيل جديد يقفز نحو مراكز صنع القرار ويتهيأ لصدارة الحياة السياسية! ولا بأس من كل ذلك فهى سنة الحياة وفلسفة الوجود ولكن الغريب فى الأمر أننا عندما أثرنا هذه القضية فوجئنا بأصداء قوية لطرحها ورأى فيها معظم الناس صورة من حياتهم الذاتية وتعبيراً عن ظروف مروا بها أو طموحات أحبطتها رحلة العمر واكتفى البعض بالحديث فى سخرية عن الجيل "المشتاق" وتوهم البعض الآخر أنه يستطيع اختزال القضية فى بعض عبارات التندر وثرثرات الليل وكأن التكوين الفكري والنضوج السياسي لا يؤهلان أصحابها للتطلع إلى الأمام والمضى نحو مواقع التأثير العام، وأنا شخصيا لا أزعم أن بي لوعة فقد حزت من المواقع السياسية والدبلوماسية والأكاديمية ما أحمد الله عليه ولكن الغريب فى الأمر هو أن ذلك الجيل المسروق قد بدأ يدخل مرحلة أكثر خطورة وأشد تعقيداً بفعل تطور الحياة السياسية واتساع هامش الحرية، فالصحافة المصرية وهى آية العصر ومرآة المجتمع قد بدأت تتجه نحو منعطف جديد قد يهدم أكثر مما يبنى أو يحرق أكثر مما ينتقد حيث أصبحنا أمام صخب إعلامي غير مسبوق فالحوار دائماً من طرف واحد ومحاولات الاغتيال المعنوي تتم بلا ضابط ولا رابط، وأبادر فأسجل هنا أننا مع الحرية لأقصى درجاتها ولكننا ضد الانفلات غير المحسوب وتراجع هيبة السلطة وإنزواء سيادة القانون، إننا وبكل قوة مع الحرب على الفساد بشرط ألا يكون اختيار القضايا تحكمياً، ونحن مع شفافية المجتمع على ألا يكون الأمر انتقائياً، فلابد من فتح كل الأبواب وكافة النوافذ لنطل على عصر جديد ولكن بعيداً عن الدوافع الشخصية أو الأهواء الذاتية أو الخصومات الحزبية، إن ذلك الجيل الذى كان مسروقاً يجد من يسعى لأن يحرقه أيضاً بالقضاء على القيم الفكرية والكفاءات العلمية والقدرات الشخصية، ولعلي أزيد قدراً من التفصيل عبر الملاحظات الثلاث التالية:-
أولاً:- إن حملة التلويث ـ بحق وبغير حق ـ قد تجاوزت المنطقة الخضراء والحدود الحمراء حتى أصبحت حرية الصحافة أحياناً كالحق الذى يراد به باطل فالتعبيرات مرسلة والأحكام متعجلة والمواقف انتقائية والآراء تحكمية والاستنتاجات خاطئة والغريب أن الكثيرين ممن يتصدون لهذا النمط من الكتابة لا يكلفون أنفسهم استطلاع الرأى الآخر ويكتفون غالباً بمعلومات مضطربة وأفكار متداخلة مع تطويع للحقائق وتلاعب بالمقدمات للوصول إلى نتائج محددة سلفاً وهذا أمر خطير للغاية إذ اختفت الموضوعية وأصبحنا أمام عملية "شخصنة" تكاد توحى بأن شرف الكلمة يتعرض لمحنة حقيقية، وهنا أسجل أن بعض الانتقادات تكون عادلة ومتجردة وفى هذه الحالة لا غبار عليها أما عندما نكتشف أن الهوى يحكم صحيفة بالكامل أو أن تياراً معيناً يسيطر على توجهاتها ويستأثر بمعدلات توزيعها فهى تكتب ما يرضيه وتبحث فيما يريده فذلك وضع ظالم يضرب حرية الصحافة فى مقتل ويجردها من أهم سماتها وهى الموضوعية والتجرد والحياد.
ثانياً:- مغالط من ينكر وجود الفساد فى أجهزتنا الإدارية ومغالط أيضاً من لا يعترف بتداخل الثروة مع بعض مراكز النفوذ ومغالط كذلك من ينكر أن لدينا من المشكلات المتراكمة ما يحتاج إلى عشرات الصحف التى يجب أن تسعى للنقد البناء والإصلاح الحقيقي بدلاً من أن تدق معاول الهدم فى كل ما تراه وتتخذ المواقف الحدية بحيث يكون الخيار هو إما تشويه ممارسات قائمة أو الإرتماء فى أحضان تيارات معينة ترفض الآخر ولا تؤمن بالديمقراطية الحديثة، إننا نرى أن البديل لذلك هو الوطنية الليبرالية بكل ما تجسده فى ضميرنا من ولاء للتراب المصري وارتباط بالكنانة أم الدنيا وصانعة الحضارات.
ثالثاً:- إنني لا أدافع عن جيل بذاته ولا أقبل التستر على فساد بعينه أو حماية انحراف ما، ولكننى أطالب بالتوقف عن اللغة السائدة التى أصابتنا جميعاً بالإحباط ونالت إلى حد كبير من هيبة الحكم عندما أخذت تفرغ جرعات من التشاؤم فى وجدان الأجيال الصاعدة، نعم إن مصر تستحق أفضل بكثير مما هى عليه، كما لا أجادل فى خطورة وجود جيوب للفساد فى المجتمع وأتحمس بغير حدود لسيادة القانون مع احترام أحكام القضاء وأطالب بأوسع مساحة للحرية وإعمال معيار المصلحة العليا للوطن قبل كل اعتبار، ولا زلت أطالب بفك الاشتباك بين الدين والسياسة وفك الاشتباك بين الثروة والسلطة من أجل وطن يملك نظاماً تعليمياً عصرياً وقاعدة علمية حديثة ومنهجاً واضحاً فى السياسة والإدارة معاً.. إن الجيل الذى ابتلع مقولة أنه جيل مسروق لا يرضى بأن يكون أيضاً هو ذاته الجيل المحروق!
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة الأخبار
2007