نعم إنها أم الدنيا، نعم إنها «الكنانة»، نعم إنها «المحروسة»، نعم إنها ذلك الوطن العظيم الذى جاء ذكره فى القرآن عدة مرات، فهى «مصر الأمصار»، ذكرها العهدان القديم والجديد، وقال فيها الأخير «مباركٌ شعبى مصر»، منها خرج «موسى» كليم الله نبى اليهودية، وعلى أرضها مشت العائلة المقدسة هروبًا من اضطهاد الرومان، فهى ملاذ آمن لكل من يلجأ إليها، باركها نبى الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام وأوصى بأهلها خيرًا واعتبرهم «خير أجناد الأرض»، وذكر أن له فيهم «نسبًا وصهرًا»، إنها أيضًا «مصر» التى يجرى نهبها على امتداد ما يزيد على خمسة آلاف عام، لكنها لا تزال صامدة لا تسقط أبداً، وكأنها أغنى بقاع الدنيا، وأكثر البلاد ثراءً، حتى قال فيها الشاعر العربى الكبير «المتنبى»:
نامت نواطير «مصر» عن ثعالبها.. وقد بشمن وما تفنى العناقيد
أما لماذا أسبح فى هذه الخواطر ذات الطابع التاريخى الفلسفى، وكأننى أنسلخ عن الواقع الأليم، الذى أحاول الهروب منه بلا جدوى؟ السبب فى ذلك أن المشهد حزين فى مجمله مقلق فى معظمه، فلم أر بلادى منقسمة على نفسها - عبر تاريخها الحديث - مثلما أراها اليوم، ولم أرها مهددة فى أمنها مثلما هى حاليًا، ولم أسمع عن أنها مستهدفة كما تبدو الآن! إن ما يحدث فى «مصر» هو تعبير عن انفجار كبير مكتوم أحيانًا ومسموع أحيانًا أخرى، لذلك فإننى أود أن أطرح على رفاق الوطن الملاحظات التالية:
أولاً: إن المشهد السياسى الراهن هو خلاصة لتراكم كبير امتد لعدة عقود من الزمان، فهو ليس نتيجة ثورة 25 يناير وحدها، لكنه رد فعل عميق لأحداث متعاقبة أثرت فى الشخصية المصرية على نحو غير مسبوق فلم تكن مصر منقسمة على نفسها مثلما هى الآن، حيث تتباين الرؤى وتختلف الآراء بشكل حاد، فليست المسألة هى اختيار أحد مرشحى الرئاسة، لكنها الاختيار بين طريقين مختلفين إلى حد كبير، ونحن نلفت النظر هنا إلى المخاطر الناجمة عن هذا التمزق الوطنى وهو أمر ينذر بأوخم العواقب.
ثانياً: إن مصر - الدولة القديمة العريقة العميقة - قادرة على امتصاص الموقف الذى تمر به حالياً، ونحن جميعاً منزعجون، البعض خائف على الثورة، والبعض الآخر خائف على هوية مصر، والكثيرون يشعرون بقلق تجاه المستقبل، الذى لا يعرفون إلى أين يتجه! لكن المهم فى النهاية ألا ينتهى الأمر باختطاف وطنى العظيم لصالح فصيل معين أو اتجاه بذاته، فمصر ملك للمصريين جميعاً بغير استثناء أو تفرقة كما أنها دولة وسطية منفتحة على العالم حولها أثرت فى الدنيا وتأثرت بها، وعلمت التاريخ، وتعلمت منه، وكانت بوتقة لانصهار المكان والزمان والسكان.
ثالثاً: إن مصدر المعاناة فى التاريخ المصرى كله هو تلك الضغوط التى تمارسها الدول الأجنبية والقوى الخارجية على القرار السياسى المصرى، وتلك هى المحنة الحقيقية للسياسة الخارجية المصرية على امتداد العصور، حيث «الكنانة» بلد مستهدف ووطن تتطلع إليه الأنظار دائماً، لأنها دولة مركزية محورية لا يمكن تجاهل وجودها أو إنكار دورها فى غرب آسيا وشمال أفريقيا، بل فى الشرق الأوسط كله، لذلك فإن التدخلات الأجنبية فى الشأن المصرى كانت ولاتزال مشكلة كبرى دفعت «عبدالناصر» إلى المواجهة معها، ودفعت «السادات» إلى محاولة احتوائها، بينما سعى «مبارك» إلى الاستسلام لها والتراجع عن تحجيمها، ولعل المشهد السياسى الحالى لا يخلو من هذه المؤثرات، التى تنعكس على الساحة السياسية.. بل تصل إلى الشارع المصرى كله.
.. تلك هى مصر التى تغنى بها الشعراء، ووصفها الأدباء، وروت أرضها دماء الشهداء! مصطفى الفقى.
جريدة المصري اليوم
27 يونيو 2012
https://www.almasryalyoum.com/news/details/221254