تحتاج الأمم فى لحظات التحول الكبرى إلى من يقود مسيرتها، وتتطلع الشعوب فى الأوقات الصعبة إلى من يأخذ بيدها نحو آفاق المستقبل، لذلك فإن فكرة «الزعيم» ليست نزعة فردية بقدر ما هى ظاهرة تاريخية، فالزعامة معطى إنسانى، تحتوى على درجة من «الكاريزما» الشخصية والصفات المتميزة التى تجعل من يملكها صاحب قرار، كما يمتلك رؤية بعيدة وإرادة صلبة، فإذا كانت الأمم والشعوب تحتاج لتلك الزعامة فى الأحوال الطبيعية، فإنها تفتقدها بشدة عندما تندلع الثورات وتحدث الانتفاضات، فيصبح الوطن شديد الحاجة إلى «زعيم» يلتف حوله الشعب وقائد تثق به الجماهير، وليست هذه عبارات عامة أو كلمات فضفاضة، فالقيادة علم وفن والزعامة هبة ومنحة، وكلتاهما لا تأتى إلا بالانخراط المبكر فى العمل السياسى والإحساس بنبض الناس والتفاعل مع آمالهم وآلامهم بل الخروج من بين صفوفهم، وليست الزعامة نزعة «شيفونية» أو تعبيرًا فرديًا يعطى لشخص الزعيم حقوقًا تتجاوز الحاجز الديمقراطى الذى هو سمة العصر وأداته الجديدة من أجل تكريس سيادة القانون وتأكيد حرية الوطن والمواطن.
وأنا أعترف بداية بأننا لا نعيش عصر النجوم اللامعة والقيادات التاريخية، فلقد مضى زمان ترصعت فيه سماء العالم بأسماء كبيرة من أمثال «ونستون تشرشل» و«شارل ديجول» و«ماوتسى تونج» و«جواهر لال نهرو» و«جمال عبدالناصر»، وغيرهم من الزعامات التاريخية المؤثرة فى تاريخ البشرية، التى ألهمت شعوبها طريقًا مضت فيه بأرباحه وخسائره، وقد أغفلنا عامدين أسماء من طراز خاص مثل «غاندى» و«مانديلا» فهذان يمثلان روحًا إنسانية أكثر منها زعامة سياسية وفيهما درجة من الارتباط القوى بشعوب «آسيا» و«أفريقيا» بالترتيب، كما أننا نعتبر «نابليون بونابرت» قائدًا عسكريًا فقط، وننظر إلى «جوزيف ستالين» باعتباره «ديكتاتورًا» أكثر منه «زعيمًا»، ونرى «فلاديمير لينين» صاحب فكر أكثر منه قائد ثورة، ونحن نسجل الآن أن ذلك العصر الذى عرف تلك الأسماء الكبيرة لم يعد له وجود، وأصبحنا أمام زعامات ذات أحجام متوسطة لا تملك وهج القيادة ولا شعبية الزعامة، ولكنها تقود شعوبها وفقًا للظروف المحيطة والأحوال الطارئة، لذلك فإننا نضع الملاحظات الثلاث التالية:
أولاً: إن ثورة 25 يناير 2011 كانت انتفاضة تلقائية عبرت بها الأجيال الجديدة من الشعب المصرى عن رغبتها فى التغيير وإسقاطها لنظام عطل مسيرة التقدم ووأد فكرة الإصلاح، ولكن المشكلة الحقيقية لتلك الثورة الشعبية أن الوسيط فيها لم يكن زعامة ملهمة، ولكن تقنية حديثة تقوم على «تكنولوجيا المعلومات»، فقد خرج المصريون إلى الميدان باتفاق ضمنى عبر صفحات «فيس بوك» ولكن تلك الأجهزة الحديثة تستطيع أن تحشد مئات الألوف فى أسرع وقت، لكنها لا تستطيع أن تقدم زعامة جديدة، لذلك فهى تدفع للحشد ولكن بلا رأس. إنها تحرك الجماهير، ولكنها لا تأتى بالقيادة، ولعل ذلك يفسر إلى حد كبير أزمة الثورة المصرية وافتقادها قيادة واعية بدلاً من عشرات الائتلافات المختلفة والأجندات المتنوعة.
ثانيًا: لقد انقسم المصريون حول زعمائهم تاريخيًا، ورغم الإجماع النسبى على زعامتى «سعد زغلول» و«جمال عبدالناصر» فى القرن العشرين فإن هناك من لا يتحمس لأيهما، بل يرى أن «الكاريزما» التى تمتع بها كل منهما كانت تعمى الأبصار وتحجب الرؤية وتقود الشعوب أحيانًا فى طريق مفروش بالعواطف والانفعالات أكثر منه اهتمامًا بالأفكار والسياسات، ونحن نقول صراحة إنه يجب ألا ينعكس تقويمنا للزعامات القديمة على اختيار الزعامات الجديدة، فلكل عصر رموزه ولكل وقت أذان، فخصائص الزعامة فى القرن العشرين تختلف عنها فى القرن التاسع عشر، وليست هى بالضرورة خصائص الزعامة فى القرن الحادى والعشرين، «فعبدالناصر» ليس «عرابى» كما أن ثوار 2011 لا يعيشون عصر«عبدالناصر» ولا شخصيته، لذلك فإن القياس يجب أن يكون محكومًا بفارق الزمان والمكان والبشر أيضًا.
ثالثًا: قد يقول قائل إن الدنيا قد تغيرت، والأحوال تبدلت، ومزاج الشعوب محكوم بذلك فلم يعد بنا حاجة إلى زعيم يقود أو قائد يتقدم المسيرة، كما أن العبرة هنا ليست فى الشخص، فقد تكون الزعامة «حزبية» والقيادة «جماعية»، ولكن لابد فى النهاية أن يكون هناك رمز للثورة ورئاسة للدولة على نحو يجدد شبابها ويحيى تراثها ويدعم وحدتها الوطنية فى انصهار كامل بلا تفرقة أو إقصاء أو استثناء.
هذه تأملات فى طبيعة الثورة المصرية مع تأثيرها فى المحيطين الإقليمى والدولى، رغم المنعطف التاريخى الذى تمر به، الذى يجعلنا نشعر بأننا فى حاجة إلى زعيم عادل ومستنير بمقاييس عصرية يفعل أكثر مما يقول، ويفكر فى المصلحة العليا لـ«الوطن» دون سواها، ويؤمن بالشعب باعتباره «السيد» دائمًا.
جريدة المصري اليوم
16 مايو 2012
https://www.almasryalyoum.com/news/details/220161