إننا نلوك حديثًا مكرراً عن الماضى بأخطائه وخطاياه، ونكرر دائماً مقولات مطولة عن الفساد والاستبداد، ولا بأس من ذلك كله، لكن أن نظل مقيدين بسلاسل الماضى متقوقعين فى أحزانه وسلبياته، فذلك أمر غير مقبول، فخير لنا أن نضىء شمعة من أن نقف فقط لنلعن الظلام، ولذلك فإن ارتياد المستقبل هو محاولة جادة للتغيير والبناء، للخروج من شرنقة الماضى، والاستعداد لتحديات المستقبل والتفكير فيه والعمل من أجله، لأن ذلك يعنى أن الثورة قد أثمرت وأن دماء الشهداء لم تذهب سدى، وأن «مصر» ماضية فى طريقها متجهة نحو غاياتها رغم كل الملفات المفتوحة بلا حصر والقضايا الغامضة بلا تفسير!.. إننا نرى المستقبل بمنظار الحاضر ونستلهم النجاح به والإنجاز منه، وذلك انطلاقًا من الإحساس العميق بفلسفة التاريخ، التى تؤمن بالشعوب قبل غيرها، وسوف نطرق أبواب المستقبل مرة أخرى بدقات واضحة بلا تشنج، واثقة دون تخبط، صادقة دون مبالغة فى الوهم أو استطراد فى الحلم لأن «فقه الأولويات» يلزمنا بمنهجية علمية تستمع إلى صوت الماضى، وتعيش فى الحاضر، وتفكر فى المستقبل.. دعنا نرصد فى هذا السياق المؤشرات التى نتوجه بها ومعها نحو غدٍ أفضل:
أولاً: يجب أن نعترف بأننا جزء من أمة «ماضوية» تتغنى بالأمجاد، وتنسى حقوق الأحفاد! أمة تقضى وقت فراغها فى قراءة شعر ديوان «الحماسة»، ترفع الشعارات وتصك النداءات، لكن إسهامها فى حضارة العصر أصبح محدودًا للغاية، إننا إذا وضعنا أيدينا على هذه الحقيقة أصبح من اليسير علينا أن نناقش القضايا بموضوعية وشفافية وحياد، فكثير من أفعالنا ينتقص من المستقبل ويؤدى إلى تآكل عوائده، فالعمل والعمل وحده هو رصيد الشعوب وركيزة الأمم، لأن الثروات الطبيعية تنضب ولكن الموارد البشرية هى الباقية، ونحن إذ نتحدث عن المستقبل، فإنما نطرق بابًا أمامنا لا يبدو بعيدًا عنا، لذلك أطالب بالتركيز الشديد على «المستقبليات» واستشراف أبعاد الزمن القادم، الذى ثارت من أجله الأجيال، وانتفض الشعب المصرى كله.
ثانيًا: إن «التعليم» و«البحث العلمى» هما ضلفتا «البوابة الملكية» للولوج إلى «المستقبل»، الذى لن نصل إليه إلا بالعمل المنتج والفكر البناء، فـ«اليابان» دولة فقيرة فى الموارد الطبيعية، و«الاتحاد السويسرى» لديه نفس الندرة فى مصادر الطاقة، لكن عنصر «العمل» هو الذى استطاع أن يجعل منهما شعبين يتحدثان عن «دولة الرخاء»، وأنا لا أتفهم إطلاقًا أن «مصر»، وهى مستودع بشرى كبير حافل بالكفاءات والقدرات، يمكن أن تظل معطلة الإمكانات على النحو الذى نراه، إن الثورة يجب ألا تكون انتفاضة شعبية فقط، لكن تكون أيضًا انطلاقة نهضوية.
ثالثًا: لقد دخلت إلى هذا الميدان منذ سنوات وكتبت مقالاً ـ فى ظل أحلك ظروف النظام السابق ـ عن مصر عام 2050 بشرت فيه بدولة ديمقراطية حديثة وليبرالية عصرية وحياة حزبية وأداء برلمانى تتواكب جميعها مع المستقبل القادم، كما كتبت مقالاً منذ عدة شهور عن مصر 2020 تعرضت فيه بوضوح للملفات ذات الأولوية، وفى مقدمتها ملف مياه النيل، وملف تعمير سيناء، وملف تطهير ألغام الصحراء الغربية، وملف الارتقاء بالتعليم وتطوير البحث العلمى، وملف المراجعة الشاملة لحياتنا الثقافية بما يرفع من الهوية ويرتقى بالوطن، ذلك أننى مؤمن تمامًا بأن الغد محكوم باليوم مثلما هو اليوم الذى لا يزال أسيرًا للماضى!
رابعًا: إن مصر الحديثة ودعائم نهضتها يجب أن تكون مشروعنا القومى الذى نتحدث عنه ونتمسك به، كما أن الوطن يحتاج دائمًا إلى جهد كل أبنائه بلا إقصاء أو استثناء أو ابتزاز للمشاعر أو استفزاز للآخر، فهناك أصوات نكراء تقوم بعملية تعميم عمياء لا تستند إلى القانون، ولا تحتكم إلى الأخلاق، لكنها تصدر من أولئك الذين فى عيونهم القذى، ولديهم العوار الحقيقى، إننا نسعى إلى دولة عصرية ترتفع فوق الدوافع الشخصية والمصالح الذاتية، وتعلى كلمة الوطن فوق غيرها.
خامسًا: إن الأجيال الجديدة صاحبة الحق فى المستقبل تتطلع إلينا فى رغبة جامحة، للخروج من مستنقع الماضى وفوضى الحاضر، للدخول فى عصر يتقدم فيه الجميع بدلاً من اجترار الذكريات، والحديث عن النوايا والتفتيش فى القلوب، إننا لن ننسى دماء الشهداء ولا محاسبة من أخطأوا فى حق الوطن، لكننا نؤمن أيضًا بأن الديمقراطية فى أبسط معانيها هى أنها «دولة القانون».
جريدة المصري اليوم
15 فبراير 2012
https://www.almasryalyoum.com/news/details/52963