إن كل ثائر وطنى بالضرورة، لأنه ينتفض لكرامة وطنه ويثأر لمعاناة شعبه، لكن ليس كل الوطنيين ثواراً، فالثورة فعل خاص يلجأ إليه البشر عندما تستحيل البدائل الأخرى لتحقيق التغيير، وهناك مدرستان عرفتهما نظم الحكم تمثل كل منهما أداة للتغيير الأولى «إصلاحية» والثانية «ثورية»، لكن المشكلة تكمن فى أن الإصلاح فى كثير من الحالات يكون غير ممكن وأن خطايا النظام القائم تتجاوزه، بحيث لا يصبح التغيير بالإصلاح ممكناً ولا مقبولاً، فهناك حالات مرضية تصيب بعض النظم تحتاج إلى التدخل الجراحى أى إلى مشرط الثورة، لبتر الأجزاء المريضة والتخلص من الجسد الفاسد، أما الإصلاح فهو علاج على «البارد» يلجأ إليه كثير من الوطنيين، لإحداث التغيير وبشكل تدريجى قد لا يحقق نتائج مائة بالمائة، لكنه يرفع قدراً من المعاناة فى كثير من الحالات، ولقد كنت ولا أزال منحازاً للمدرسة الإصلاحية، إلا إذا استشرى السرطان فى الجسد، وعندئذ لابد من ثورة للقضاء عليه وعلاج الوطن من مرض لا تجدى معه العقاقير والمسكنات، والآن دعنا نكن صرحاء، إذ إن فى الثورة أو العلاج الجراحى قدراً لا بأس به من المجازفة، فالمريض يعانى فى السنوات الأولى للجراحة متاعب بغير حدود، مع ظهور مفاجآت غير متوقعة نتيجة صعود قوى معينة وهبوط أخرى، لأن هدم نظام فاسد وإقامة بديل له بمنطق التغيير بالعنف لهما تداعيات على الجسد تحتاج إلى نقاهة طويلة قد لا تتحملها كل الفئات فى المجتمع، نتيجة ضغوط الحياة وتوقف عجلة الإنتاج والتدهور فى مرافق الدولة، وقد يطول الوقت قبل أن يستعيد الوطن عافيته، فتتحمل عبء الثورة قوى اجتماعية معينة تكون غالباً من أصحاب الدخول الثابتة والأجور المتدنية والوظائف المؤقتة، أى أولئك الذين يعيشون بمنطق (من اليد إلى الفم)، ولعلنا نلاحظ شيئاً من ذلك فى «مصر» حالياً، حيث يدور الجدل السياسى الذى يبدو «سفسطائياً» فى مجمله حول قضايا نظرية لا تقتات بها الشعوب ولا تعيش معها الأمم، والكل يدرك أن فقه الأولويات يضع أمامنا تحديات أخرى أبعد ما تكون عما نتحاور حوله أو نجادل فيه.. دعنى أقدم الملاحظات الثلاث التالية:
أولاً: لا يتصور ثائر مهما علا قدره ومهما طالت فى «ميدان التحرير» إقامته أنه الوطنى الوحيد، وأن الوطنية أصبحت حكراً عليه يستأثر بها ويتحدث باسم الوطن دون غيره، فإذا كان كل الثوار وطنيين، وهذا أمرٌ حتمى، إلا أن ذلك لا يعنى تجريد من لم يشارك مباشرة فى الثورة ـ لكنه دعمها فى كل مراحلها، بل بشر بها قبل قيامها ـ من وطنيته، لأن المزايدة فى هذا الأمر لعبة خطيرة قد تنقلب على أصحابها قبل غيرهم، أقول لأبنائنا من الثوار إن دم الشهداء هو الذى كسر حاجز الخوف وأطلق الألسنة الخرساء، فأصبح من حق الجميع بلا استثناء أن يقول ما يشاء بغير حدود نتيجة تلك الثورة الشعبية الكاسحة، لكن أولئك الذين قالوا ولو نصف ما يقال الآن قبل الثورة يستحقون الإشادة والتقدير، فالعبرة بمن قال كلمة الحق أمام سلطان جائر لا من يتغنى بها بعد رحيله.
ثانياً: إننا نلاحظ جميعاً أن هناك كثيراً من الآراء لها دوافع كيدية أحياناً وانتقامية أحياناً أخرى، فضلاً عن تصفية الحسابات وضرب الخصوم تحت الحزام والتلويح بشعارات الثورة فى غير موضعها، ونحن ندعو أبناءنا من الشباب إلى أن ينتبهوا إلى المخاطر الناجمة عن ذلك، فأنا أعرف العشرات ممن ركبوا موجة الثورة، فأوهموا الجميع بأنهم من قياداتها، بينما كانت استفادتهم من النظام السابق تفوق الوصف، لكن القدرة على طمس التاريخ وصناعة الحاضر على حساب الحق والحقيقة هى نوع من الفن الذى برع فيه البعض، بينما لا يجيده الكثيرون!
ثالثاً: مازلت أكرر أن منطق الاستبعاد والإقصاء وتصنيف المواطنين ظلماً، وتقسيمهم إلى فئات وطوائف هو عملية إهدار متعمد للكفاءات والخبرات فى وقت يبدو الوطن فيه أشد ما يكون حاجة إليها وحرصاً عليها، كذلك فإنه يحمل فى طياته إهداراً آخر للموارد البشرية فى بلد يعتمد بالدرجة الأولى عليها قبل موارده الطبيعية، لذلك فإننى أدعو إلى مصالحة وطنية شاملة، إلا فى أمرين أولهما: دماء الشهداء، فهى لا تقدر بثمن ولا تقبل المساومة
والثانى: هو الإدانة بالقضاء فى الجرائم الجنائية أو الإدانة فى البرلمان بالمحاكمة السياسية، وما دون ذلك يمكن أن نفتح له صفحة جديدة أمام كل القوى الوطنية دون تفرقة أو استثناء، وأنا هنا لا أدعو إلى نقل التجربة كاملة من «جنوب أفريقيا» بقيادة المناضل التاريخى «نيلسون مانديلا»، لكننى أدعو فقط إلى طى الممكن من صفحات الماضى باستثناء ما أشرنا إليه، حتى تصبح «مصر» غاية لكل أبنائها وهدفاً لكل القوى السياسية فيها، فتلك هى القراءة العادلة التى تسعى إلى تعظيم المستقبل المصرى بعد سنوات طويلة من الفرص الضائعة!
جريدة المصري اليوم
1 فبراير 2012
https://www.almasryalyoum.com/news/details/218001