بعد نشر مقالى الأخير عن «الجيش المصرى والسياسة» تلقيت اتصالاً هاتفيًا فى الصباح الباكر من الأستاذ «أمين فخرى عبد النور» الذى يبلغ المائة من عمره بإذن الله فى يوليو 2012، وهو بالنسبة لى وللكثيرين من جيلى بمثابة الأب خصوصاً أن ابنه السياسى الوفدى والوزير المتميز «منير فخرى عبد النور» هو زميل دراسة وصديق عمر وقد قال لى «العم أمين»- كما يحلو لى أن أناديه- بأنه سعيد بالمقال الذى قرأه ثم ناقشنى فيه بعمق وقال لى فى نهاية المحادثة إنه يرسل لى قبلتين!
وتذكرت لحظتها صهره العظيم أستاذى الدكتور «بطرس بطرس غالى» الذى كان لا يفرق بين طالب مسلم وآخر مسيحى بل لا يكاد يتعرف على أى منهما بسبب عقيدته الدينية، وتذكرت أيضاً عندما ذهب «فخرى بك عبدالنور» فى أربعينيات القرن الماضى ليخطب لابنه «أمين» الزوجة الصالحة من أعرق العائلات القبطية فاختار له ابنة «أمين باشا غالى»- عم الدكتور «بطرس»- واشترط «فخرى بك عبدالنور» ذلك الوطنى الكبير وأحد الأعمدة فى بناء الكيان الوطنى لثورة 1919 أن ترفع الصور الفوتوغرافية التى تزين منزل «أمين باشا» أثناء الزيارة لأنها تضم رحلات صيدٍ مع بعض الأصدقاء من الإنجليز.
هكذا كان التطرف فى الوطنية وعشق «مصر» ورفض كل ما يمت للاحتلال بصلة، تذكرت كذلك أن «فخرى بك عبدالنور» لم يجد أفضل من الإمام «المراغى» شيخ الأزهر لكى يكون رفيقه فى زيارة الخطوبة لابنه «أمين» من ابنة «أمين باشا غالى» وتلك تقاليد رائعة استبدلناها حاليًا حرقًا للكنائس وترويعًا للأقباط، إننى أقول ذلك وأتذكر أساتذتى فى المرحلتين الإعدادية والثانوية من أمثال «عبدالمسيح ناشد» و«عوض حنّا» وغيرهما عندما كنت الأول على المدرسة والمنطقة التعليمية وكيف أن قضية الدين كانت علاقة خالصة بين العبد وربه لا صلة لها على الإطلاق بالعلاقات بين البشر.
تذكرت ذلك كله وأنا أرقب المشهد السياسى حالياً والمخاوف التى تسود بين الأسر المسيحية خصوصًا بعد بعض التصريحات السلفية المتشددة والآراء الدينية المتشنجة، ولابد أن أعترف أن بين المسيحيين المصريين تياراً عاماً يقبل بنتائج الانتخابات البرلمانية ويتوقع أن يكون موقف «الإخوان» و«السلفيين» متوازنًا وعادلاً معتقدين أن التصريحات الإعلامية تختلف عن المواقف المسؤولة وأن من يده فى الماء ليس كمن يده فى النار، كما أن هناك أصواتًا مسيحية تطالب بعدم المغالاة فى القلق وترى أن من بين السلفيين شخصيات تتعاطف معهم أما بالنسبة للإخوان المسلمين فإنه لا يخالجهم شك فى فهمهم لطبيعة المشهد السياسى وتمرسهم بالحياة العامة نتيجة تراكم خبرة أكثر من ثمانية عقود من العمل العام والتعامل مع القوى المختلفة، أقول ذلك والذاكرة تعود بنا إلى حادث اغتيال الإمام الشهيد «حسن البنا» حيث يكاد يكون «مكرم عبيد باشا» هو السياسى الوحيد الذى شارك فى جنازة مؤسس جماعة «الإخوان المسلمين» عند استشهاده، أى أن هناك تقاليد رائعة يمكن أن ننطلق منها وأن نبنى عليها، أما الأصوات النكراء التى تشبه نعيب البوم ونعيق الغربان والتى تصدر عن فهم مغلوط للإسلام الحنيف وروحه السمحاء فتتحدث عن «الجزية» فى غير موضعها وتردد عباراتٍ تدور حول الإقصاء والتفرقة والتمييز والتدخل فى الحياة الشخصية للبشر بغير مبرر بما يمثل تهديدًا نفسيًا لغير المسلمين فى وطنهم بعد جوار آمن وعيش مشترك امتد قرابة خمسة عشر قرنًا.
أقول لهم اتقوا الله فى هذا الوطن العريق «واستوصوا بقبط مصر خيرًا» كما أوصانا نبينا صلى الله عليه وسلم، وتذكروا دائمًا أن دماء المسلمين والمسيحيين قد اختلطت فى الحروب والثورات ولعل آخرها «حرب التحرير» عام 1973 وثورة «ميدان التحرير» عام2011، ولا يخالجنى شك فى أن المسيحيين المصريين يمكن أن يشهدوا واحدًا من أزهى عصورهم مع وصول التيار الإسلامى إلى أغلبية البرلمان القادم.. إنه أمل يداعبنى ولا أراه بعيدًا فتلك هى الروح الحقيقية للإسلام وذلك هو الفهم الصحيح لديننا الحنيف وأعود فأقول للقادمين الجدد إلى مواقع السلطة التشريعية «استوصوا بهم خيرًا» وهم يدركون من أقصد خصوصاً مع دقات أجراس أعياد الميلاد المجيد إذ إن «مصر» كانت ولا تزال وسوف تبقى الكل فى واحد.
جريدة المصري اليوم
5 يناير 2012
https://www.almasryalyoum.com/news/details/53881