اهتم المعنيون بالشؤون المصرية منذ منتصف القرن العشرين بدراسة دور الجيش المصرى فى الحياة السياسية المصرية باعتباره أعرق جيوش المنطقة وأقدمها على الإطلاق، بل أكثرها «مهنية» على حد تعبير وزير الدفاع الأمريكى الأسبق، إنه الجيش الذى واجه الغزاة منذ فجر التاريخ، وخرج للفتوحات على امتداد العصور، وسجل فى القرن التاسع عشر إنجازاتٍ إقلي مية باهرة تحت حكم الأسرة العلوية بدءاً من الحاكم المؤسس «محمد على باشا» مروراً بالقائد العسكرى الذى يعد الأب الشرعى للجيش المصرى الحديث وأعنى به «إبراهيم باشا» وصولاً إلى تمرد الفلاحين المصريين فى صفوف ذلك الجيش المصرى وتحركهم بقيادة «أحمد عرابي» لمواجهة الظلم والاستعباد والتمييز وسيطرة العناصر غير المصرية على مقدرات ذلك الجيش الذى دكت سنابك خيله «هضبة الأناضول» ذات يوم ووصلت إلى سواحل أوروبا الشرقية وأعالى النيل وجزر المتوسط واجتاحت الشام ووصلت إلى أعماق الجزيرة العربية، وهو أيضاً ذلك الجيش العظيم الذى تحرك فى الثالث والعشرين من يوليو عام 1952 مسقطاً حكم الأسرة العلوية ناقلاً «مصر» من مملكة إلى جمهورية، وهو أيضاً الجيش الباسل الذى خاض «حرب الاستنزاف» العصيبة فى شجاعة منقطعة النظير، وحارب معركة «رأس العش» بعد أيام معدودة من هزيمة يونيو 1967، وهو الجيش الجسور الذى شن حرب العبور» عام 1973، مجتازاً أكبر مانعٍ بحرى وبرى فى تاريخ الحروب الحديثة.
لقد كانت هذه مقدمة ضرورية نتعرف بها على الروح الوطنية لجيش المصريين، ونتأكد بها أنه كان دائماً مدرسة الوطنية المصرية ومصنعاً للقادة العظام والعسكريين المشهود لهم إقليمياً ودولياً، كما أنه بوتقة الانصهار بين العقائد الدينية والطبقات الاجتماعية، وهو القاطرة التى أخذت بيد القرية المصرية من خلال أبنائها العائدين من صفوفه، ولقد كتب أستاذى البروفيسور «فاتكيوتس» الذى أشرف على رسالتى للدكتوراه فى جامعة «لندن» مع مطلع سبعينيات القرن الماضى كتابه الشهير عن الجيش فى السياسة المصرية ثم قدم واحد من تلاميذه الذين جاءوا بعده وهو البروفيسور «تشارلز تريب» أطروحته الرائعة حول نفس الموضوع والتقانى عدة مرات فى «القاهرة» فى ثمانينيات القرن الماضى عندما كان يجمع مادته العلمية ويستطلع آراء الخبراء والمتخصصين حول موضوعه.
أيها السادة.. إن جيشاً عظيماً هذا هو تاريخه وذلك هو رصيده لا يمكن أن نعبث به فى الميادين والشوارع والأزقة ونقحمه فى صدام يجب ألا ينخرط فيه على النحو الذى شاهدناه فى الأسابيع الأخيرة، ولنتذكر أنه هو ذاته الجيش الوطنى الذى استجاب لشرعية «ميدان التحرير» دون شرعية «القصر الجمهورى» وانحاز لصفوف الجماهير الثائرة مضيفاً نقطة بيضاء لسجله الحافل، مؤكداً أنه جزءٌ لا يتجزأ من هذا الشعب العريق، ولى هنا ملاحظات ثلاث:
1 - إن قيادات الجيش المصرى فى 2011 تختلف عن ثواره عام 1952 إذ إن «محمد نجيب» و«جمال عبدالناصر» ورفاقهما كانوا هم أصحاب الثورة وقاداتها بينما يختلف الأمر بالنسبة للمشير «طنطاوى» ومجلسه فهم حماة الثورة الذين انحازوا لها وشاركوا فيها ولكن لم يصنعوها وحدهم، كما أن الثقافة العسكرية بعد «حرب فلسطين» عام 1948 تختلف عنها بعد توقيع «اتفاقية السلام» مع «إسرائيل» والدخول فى مزاجٍ مختلف سياسياً وثقافياً.
2 - إن قدرة المجلس العسكرى المصرى محدودة أحياناً فى الحركة ومقيدة فى الاتجاه لأن أعضاءه عاشوا سنواتٍ طويلة شهوداً على الاستبداد والفساد وإن لم يشاركوا فى خطاياه الكبيرة وتلك نقطة مهمة يجب ألا نغفلها عند محاولة تقويم مواقف المجلس العسكرى ومسار قراراته فى الشهور الأخيرة.
3 - إننا يجب أن نعترف لذلك المجلس أنه تعامل فى المراحل الأولى للثورة مع جماهير الشعب بحنوٍ بالغ وصبر طويل وكأنما هو الابن البار يتعامل مع أبيه صاحب الفضل الأول وهو الشعب المصرى الذى خرج منه وانتمى إليه.
إننا نقول هذه الكلمات فى رسالة موجزة لكى نطلب من المجلس العسكرى المصرى ومن الثوار والقوى السياسية المختلفة وفى مقدمتها «الإخوان المسلمون» و«السلفيون» الذين حازوا أغلبية نسبية فى الانتخابات البرلمانية حتى الآن، أطالبهم جميعاً بالسعى إلى عدم توريط العسكرية المصرية الشامخة فى مطاردات الشوارع ومواجهات البلطجة، لأن لديها رسالة أعظم وأنبل من ذلك وأخطر بكثير وأعنى بها حماية الأمن القومى المصرى من الخارج فما أكثر المتربصين بالوطن الذين يرصدون لحظة الضعف لكى يخترقوا ذلك «الكيان الفرعونى العريق»، ونطلب من المجلس العسكرى على الجانب الآخر أن يسرع الخطى على طريق التحول الديمقراطى حتى يدخل التاريخ مرة أخرى لا فاتحاً ولا ثائراً ولكن جيشاً وطنياً نفاخر به ونعتز بدوره ونعتبره جوهر هيبة الدولة وريادتها الإقليمية ومكانتها الدولية.
جريدة المصري اليوم
29 ديسمبر 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/53882