تردد فى السنوات الأخيرة تعبير «الحكم الرشيد»، الذى جرى اختزاله فى بعض أدبيات علم السياسة ونظم الحكم تحت كلمة «الحوكمة»، وفى ظنى أن أسوأ ما عانيناه فى تاريخ مصر الحديث يمكن اختصاره فى «غياب الرؤية» و«ضعف البصيرة» و«فقر الخيال» فحكامنا لم يكونوا مستلهمين لخطاهم من فكر مستنير أو ثقافة متجذرة، إنما مضى الأمر دائمًا فى خصومة واضحة بين حائزى السلطة وأصحاب القرار فى جانب والوعى بالتاريخ والثقافة السياسية فى جانب آخر، لذلك ضاعت الفرص وأهدرت الموارد واختفت الرؤية وغاب الوعى، ولعل الثلاثين عامًا الأخيرة تجسد فى حد ذاتها المظهر الواضح لما نود الحديث عنه، فالظواهر شاهدة على أننا دفعنا ثمن «الاستبداد» و«الفساد» دون مقابل فلم يكن هناك لا «المستبد العادل» ولا «الحاكم المثقف» ولا «صاحب القرار الذى تربى سياسيًا»، لذلك كانت النتيجة وخيمة والأمر جللاً، لذلك فإن 25 يناير لم تأتِ من فراغ ولم تولد فقط من رحم الغيب ولكنها نتيجة طبيعية لتراكمات طالت وفرص ضاعت مع فكر عبثى وأداء هزلى يضاف إليهما قصر النظرة وغياب التربية السياسية، لذلك فإننا يجب أن ندقق كثيرًا فيمن يقود البلاد فى المرحلة القادمة، فإن لم يكن صاحب رؤية وخيال ثرى يقف على أرضية وطنية صلبة فإنه لن يكون قادرًا على أن يقود البلاد بطريقة غير تقليدية تخرج بها من سنوات الترهل والشيخوخة والتفكير الروتينى.
إننى أقول صادقًا ليت لدينا شابًا فى الأربعينيات أو الخمسينيات من العمر رصيده ثقافة واسعة ورائده فكر مستنير وأداته رؤية شاملة ليقود البلاد فى مرحلة من أخطر مراحل حياتها وأكثرها صعوبة وتعقيدًا، لذلك عندما طلبت منى إحدى المحطات الفضائية المصرية أن أتحدث على امتداد عام 2012 عن تقييم ما جرى وتحليل ما يجرى واستشراف المستقبل لم أتردد إيمانًا منى بمسؤولية المعرفة وأهمية الخبرة ولزومية الشهادة للتاريخ دون بذاءة أو إسفاف ودون تحامل أو تملق، خصوصًا أن الكل تقريبًا أحياء والشهود موجودون، ولا يعنينا فيما سوف نقوم به توجيه الاتهام لأحد أو تأكيد الإدانة لغيره، ولكننا نريد الحقيقة والحقيقة وحدها للأجيال القادمة مسؤولية وأمانة وشرفًا، لذلك سوف نضع أخطاءنا الشخصية والوظيفية فى مقدمة ما نقول لأنها محاولة لقراءة الماضى بلغة الحاضر وكتابتها برؤية المستقبل، ولنا فى ذلك الملاحظات التالية:
أولاً: إن الذى يستعرض ما جرى فى العقود الثلاثة الأخيرة سوف يكتشف أن الخطيئة الكبرى تكمن فى فقر الخيال ونقص استشراف الرؤية فى كل مجال بدءًا من التعليم مرورًا بالصحة وصولاً إلى تدنى الخدمات الأساسية وتراجع مؤشرات العدالة الاجتماعية بما يعنى بوضوح غيبة «الحكم الرشيد» واختفاء مقوماته لصالح أجنداتٍ فردية، مع وجود حالة من عدم الوضوح أو القدرة على قراءة المستقبل بما جعلنا أسرى للعشوائية الفكرية التى انعكست على العشوائية العمرانية أيضًا! ولذلك فإن الدراسة الموضوعية للسنوات الأخيرة سوف تضع يدنا بوضوح على مواطن الداء الكامن وأسباب الخطأ الذى سلب الحكم حيويته وقدرته على التجدد وأصابه بنوع من الترهل الناجم عن الشيخوخة السياسية وانتهاء العمر الافتراضى، فطول فترة البقاء فى السلطة يؤدى إلى نتائج وخيمة تدفع ثمنها الشعوب من حاضرها ومستقبلها، كما أنها تبتعد بالضرورة عن خصائص الحكم الرشيد.
ثانيًا: إن تجريف الكفاءات والإطاحة بالقدرات وسلب الفرد إحساسه بالذات تؤدى إلى فقدان الفرد شعوره بالمسؤولية مع ضرب مبدأ تكافؤ الفرص فى مقتل وتغليب «المحسوبية» على «الكفاءة» والسماح بالمدد المفتوحة للوظائف العامة على نحوٍ أدى فى النهاية إلى تعقيدات متراكمة جعلت النظام السياسى الهش فى الدولة «الرخوة»- على حد تعبير المفكر الاقتصادى د.جلال أمين- يتهاوى أمام أول حشدٍ جماهيرى لتبدأ مصر مرحلة جديدة بما لها وما عليها وتواجه مخاضًا ثوريًا تتداخل فيه العوامل وتتعدد له الأسباب.
ثالثًا: إننا ننظر إلى المستقبل من خلال أطروحات عصرية تهتم بالتعليم «كبوابة ملكية» للدخول إلى عالم جديد مع التركيز على استفادة الوطن من كل كفاءات أبنائه فى كل المجالات دون تهميش أو استبعاد أو استثناء.. هذه نظرة عابرة على مفهوم «الحكم الرشيد» الذى افتقدناه أحيانًا، وحان الوقت للدعوة إليه دائمًا، «فمصر» بلد غنى بموارده البشرية وكفاءاته الفكرية والعلمية وقدراته الثقافية والإبداعية، فضلاً عن تراكم حضارى لا نكاد نجد له نظيرًا حولنا!
جريدة المصري اليوم
22 ديسمبر 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/212860