قال المعلق الرياضى الشهير إن «الكورة أجوان»، وقيل قبلها بمئات السنين إن «الحج عرفة»، ثم قالوا حديثاً «إن الانتخابات صندوق»، والمقصود من ذلك كله هو أن هناك دائماً قلبٌ للحدث وجوهرٌ للحقيقة، فالعملية الانتخابية هى صراع لوصول أصوات المؤيدين إلى الصندوق والإطاحة بأصوات المعارضين طلباً للفوز بالمقعد فى البرلمان، وينفق المرشحون أموالاً طائلة ويستخدمون وسائل متعددة لكسب المعركة التى سميتها من قبل «أم المعارك» لما فيها من ألاعيب وخدع وتربيطات مع استخدام سطوة الجاه وعصبية العائلة إلى جانب نفوذ الثروة واللجوء إلى العنف أحياناً، ولقد استبشرت مع ملايين المصريين من ذلك الإقبال غير المسبوق فى المرحلة الأولى من الانتخابات النيابية، وقلت فى نفسى هذا هو أول حصاد لثورة الشباب، لذلك يجب أن يكون لهؤلاء الشباب نصيب مستحق فى مقاعد البرلمان المقبل، وقد اقترحت علناً على شاشات «التلفزة» تعديلاً دستورياً عاجلاً يرفع نسبة المعينين فى البرلمان من عشرة إلى ثلاثين عضواً أو أكثر يكونون جميعاً تحت سن الثلاثين، حتى يكون هناك تمثيل أمين لـ«ميدان التحرير» الذى كنت أتمنى أن يتمكن ثواره من تشكيل ما يمكن تسميته «الجبهة الوطنية للثورة المصرية» بديلاً عن حالة التشرذم المؤسف والانقسام الواضح والصراع المكتوم بين من اختلطت دماء أقرانهم على «أسفلت الشوارع» فى الثورة المصرية عام 2011، ويهمنى هنا أن أسجل الملاحظات الثلاث التالية:
1- واهمٌ من يتصور أن نتائج الانتخابات تفرز بالضرورة أفضل العناصر، إذ كثيراً ما يخفق المفكرون والمثقفون فى السيطرة على صناديق الاقتراع، وقد تسبقهم عناصر لا تخلو حياتهم من علامات الاستفهام المتكررة، لكنه قرار ذلك «الصندوق» الذى يبدو محصلة للصراع دون النظر إلى القيم والمبادئ والأخلاق، فقد يفوز الأقل علماً والأدنى خبرة والأضعف تجربة.
لكننا لم نجد بعدُ أسلوباً بديلاً لعملية الانتخاب حتى نختاره للتخلص من خطايا تلك العملية اللعينة ولكننا نعود مرة أخرى لكى نعترف بأن العملية الانتخابية قد أصبحت شراً لابد منه.
2- كاذبٌ من يقول إن هناك شعوباً لديها استعداد للتحول الديمقراطى وأخرى ليست لديها رغبة ولا قدرة على الأخذ بالأساليب العصرية فى التمثيل البرلمانى وعمليات الترشيح والتصويت والانتخاب، وفقاً للمعايير الدولية المعاصرة. ولقد أخطأ عدد من الساسة المصريين فى مناسباتٍ مختلفة حين أدلى بعضهم بتصريحاتٍ عبثية تشير إلى أن الشعب المصرى غير مؤهل لتحمل المسؤولية وغير مستعدٍ للتحول الديمقراطى نتيجة الميراث السلطوى الطويل وتقاليد «الفرعون» التى لاتزال بعض أصدائها قابعة فى العقل المصرى.
ويهمنا هنا أن نقول إن قابلية الشعوب لـ«الديمقراطية» هى واحدة فى النهاية، ولا توجد إلا فروق محدودة ترتبط بالمستوى الثقافى ونوعية التعليم وطبيعة القيم والتقاليد، ونحن نرى أن الديمقراطية فى النهاية مرحلة حتمية فى حياة الشعوب بغير استثناء.
3- مكابرٌ ذلك الذى يتصور أن الديمقراطية عملية انتقالٍ سريع ولها المظاهر والمقومات نفسها لدى كل الشعوب والمجتمعات بغير تفرقة، إذ لا يوجد نمط واحد للتعبير عن الرأى، كما لا نزعم أن هناك من يحتكر الحقيقة ويملك وحده صواب الرأى، فالحوارات والمظاهرات والإضرابات والاعتصامات كلها ظواهر ديمقراطية يجب ألا ينزعج منها أحد أو يرى فيها خللاً فى النظام السياسى ويتصور أن ذلك نقيض للاستقرار، ويخلط، بلا وعى، بين حالة السكون فى النظم المترهلة وحالة التوازن بين القوى السياسية، والتى تمثل ظاهرة صحية ليس فيها ما يدعو إلى القلق، مهما امتد الجدل وارتفعت حدة الخلاف، بشرط أن تكون قواعد اللعبة السياسية واحدة، بحيث يقف الجميع على أرضية وطنية مشتركة لا تعترف باختلافاتٍ فى العقيدة الدينية أو الانتماء الفكرى أو الأصل الطبقى، فالكل أمام صندوق الانتخاب سواءٌ بلا تفرقة.
هذه قراءة سريعة تدور حول ذلك «الصندوق الزجاجى الشفاف» الذى يحسم نتيجة التنافس، ويعترف للأجدر بحقه، فضلاً عن أنه، فى النهاية، جزء لا يتجزأ من مستقبل الوطن الغنى بأبنائه.. بكل أبنائه.
جريدة المصري اليوم
15 ديسمبر 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/212549