ملعونة هى السلطة، تغيّر البشر وتكشف المعدن الحقيقى لهم، بل إن شهوتها تزيد على شهوة الغريزتين البشريتين المرتبطتين بقانون البقاء فى الحياة واستمرارها، ولقد شاءت الظروف أن أشغل موقعًا قريبًا من السلطة فى سن مبكرة، حيث كنت فى نهاية الثلاثينيات من الشباب الغابر، ولكن الله أعطانى إحساسًا بأن ما أنا فيه لا يمثل إلا مرحلة وقتية وظرفًا استثنائيًا فى حياتى لا يجب الاعتماد عليه أو القياس به، ولقد رأيت الصراع الذى يدور حول السلطان، وتابعت عن كثب دسائس القصر، فأصابنى ذلك بنفورٍ غريزى من السلطة وإحساس بأنها مفسدةٌ وأى مفسدة، والذين قالوا إن الوزير يفقد نصف عقله عندما يتولى المنصب ويفقد النصف الثانى عندما يتركه لم يكونوا مبالغين، فللسلطة بريق خاطف وضوءٌ مثير، بل إننى أرى فى المشهد المصرى الحالى شيئًا من ذلك، فهناك تكالب محموم لوراثة عهدٍ مضى وعصر انقضى بكل ما له وما عليه ولكن أشد ما يلفت نظرى هو عودة المسؤول إلى الضوء بعد ابتعاد وانتقاله المفاجئ من الظل إلى مركز صنع القرار من جديد، خصوصًا إذا كان ذلك المسؤول قد شعر بالظلم وأخذ على غرة نتيجة الوشايات والدسائس فى كواليس قصر الحكم وخارجه، إن ذلك المسؤول يشعر من جديد باستعادة عنفوانه، مع رغبة دفينة فى تلافى ما أخذ عليه وما تسربت منه الانتقادات إليه، سواء فى اختيار المعاونين له أو المفاضلة بين السياسات المطروحة أمامه، حيث تبدو العودة إلى الضوء أشد بريقًا من الضوء الأصلى فى المرة الأولى، فالحياة نسبية والمطلق هو الموت، والخلود لله وحده، إننى أريد أن أشير إلى الملاحظات الآتية:
1- إن السلطة «غول» يبتلع كل ما حوله، إنها عصا موسى التى لا تبقى ولا تذر، فهى لواحة للبشر! تلتهم من تصل إليه وتعصف بمن تقدر عليه، تفرق الصديق من صديقه وتدفع الابن إلى الإطاحة بأبيه، وتؤدى إلى اغتيال الشقيق، والتاريخ حافل بالشواهد لمن يقرأون وبالعبر لمن يتفكرون، تأتى بالحاكم من عنان السماء إلى حضيض السجون، بل قد تصل به إلى حبل المشنقة فى يوم عيد الضحية! أو القتل تعذيبًا عند السقوط فى يد من يتعقبونه، ألم نقل دائمًا إنها مفسدة أى مفسدة؟!
2- إن انحسار الضوء، والانزواء بعد انتشار نتيجة التجريد من السلطة هو أمر تفوق آلامه حدود البشر العادى، فذلك يطيح بالعقول ويعصف بالنفوس ويحيل الحياة إلى جحيم، إن خفوت الأضواء والانسحاب من المسرح مشهد رهيب يصيب الضعاف بالانهيار ويزرع فى البعض الآخر طاقة من العناد والحقد الذى قد يودى بصاحبه، ألا باعدت بيننا يا رب وبين السلطة، فلقد عرفناها صغارًا وكرهناها كبارًا.
3- لقد قالوا قديمًا إن السلطان كراكب الأسد، الناس منه فى خوف وهو على نفسه أخوف! كما أن السلطان هو البعيد عن السلطان، ومن لم يجربوا غضب السلطان لا يدركون خطورة الاقتراب منه أو التعرف عليه، فالسلطة بضاعة ملتهبة تحرق أصابع من يقترب منها وقد تزيد على ذلك عذابًا وقهرًا وهوانًا.
4- إن العودة إلى الضوء قد تجعل صاحبها يتصرف بتجرد ومثالية، لأنه جرب الانسحاب بل ربما الطرد أيضًا، لذلك فإن العودة تصبح ذات تأثير مضاعف، وقديمًا قالوا عدنا والعود أحمدُ! إننا يجب أن نتعامل مع العودة إلى الضوء وكأنها للبعض عودة إلى الحياة! فتجد الأسارير قد انفرجت والصحة قد تحسنت، وكأنما الشباب قد عاد من جديد!
5- إن إدمان السلطة ظاهرة معروفة تحدثت عنها كتب السيرة وتراجم الزعماء، إنه الإدمان الذى أطاح بالعقول وأسال الدماء وخرب النفوس وظل يطل على صاحبه كالشبح يطارده سعيًا إليها وزحفًا نحوها.
إن العودة إلى الأضواء هى ميلاد جديد حتى وإن لم تدم طويلاً، لأنها تعيد رحيق الحياة لمن يعشقون السلطة وتستهويهم المواقع خصوصًا إذا جاءت بعد طول غياب.. لعنها الله، إنها قاتلة المشاعر وخانقة العواطف ومدمرة الجسور الإنسانية بين البشر فى كل زمان ومكان.
جريدة المصري اليوم
8 ديسمبر 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/212277