ما أكثر المقالات الصحفية والندوات التليفزيونية واللقاءات الإذاعية، التى يدور معظمها حول الوضع السياسى الراهن فى «مصر»، والتى تتخللها كلمات حادة وعبارات صاخبة لا تخلو من ضجيجٍ يرهق الأذهان والأبدان، حيث تسيل فى ثناياها مفردات كثيرة تدور فى مجملها حول الانتخابات والدستور والوثيقة والرئيس القادم، وكيفية تطبيق قانونٍ العزل السياسى، وأسلوب معاقبة «الفلول».. كل ذلك يجرى بينما هى قليلة تلك المقالات أو الحوارات التى تدور حول مشروعات التنمية وبرامج الإصلاح التى تؤدى إلى مسار النهضة التى نسعى إليها. لقد استغرقتنا الوسائل دون الغايات واستهلكتنا مناقشات الحاضر، وصرفتنا عن التهيؤ للمستقبل. ولقد قرأت مؤخراً فى إحدى الصحف خبراً يتحدث عن تعمير المناطق الحدودية للبلاد بالتركيز على «سيناء» و«حلايب وشلاتين» و«النوبة» و«الصحراء الغربية»، ولقد غمرتنى موجة من التفاؤل إذ اكتشفت أن هناك من لايزال يدرك طبيعة الارتباط القوى بين التنمية الشاملة والمصالح العليا للوطن متمثلة فى أمنه القومى واكتشاف ذلك الارتباط القوى بين التنمية والأمن، بين الإصلاح والمصلحة، بين الرؤية الشاملة والنظرة المتكاملة، لذلك فإننى مازلت ألح على ضرورة تشكيل مجلسٍ قومى أعلى للتخطيط السياسى والاقتصادى والثقافى والاجتماعى تحت مظلة وطنية واحدة تسمح بتزاوج القدرات وتداخل الكفاءات واندماج العقول، فالرصيد البشرى فى «مصر» هو أغلى ما لديها، بل هو أعز ما تملك، لذلك فإن توظيفه لرسم «خارطة الطريق» وتلمس خطى المستقبل هو أمرٌ ضرورى، لأن التقدم لا يأتى بالارتجال كما أن الاستقرار لا يتحقق من خلال الفوضى، بل لابد من آلية منظمة ودائمة تقدم الأفكار وتدفع بالتصورات وتنجح فى تخيل «مصر» المستقبل وما يجب أن تكون عليه، فإذا قلنا إن «الثورة» هى ابنة شرعية للشارع، فإن «النهضة» هى ابنة شرعية للنخبة، بل إن الثورة لا تستحق ذلك اللقب الذى تحمله ما لم تقترن بموجاتٍ إصلاحية واضحة، ومشروعاتٍ وطنية جديدة وأسلوبٍ مختلف فى الإدارة، وانتقاء القيادات، واختيار الكفاءات حتى نرصع جبين «مصر» بأفضل من أنجبت بدلاً من الدعاوى السائدة، التى نجحت فى تقسيم المجتمع وخلق حالات التربص والدوافع الكيدية وتصفية الحسابات، بينما لا يحتل الفكر التنموى من العقل المصرى إلا أقل القليل، ونطرح الآن بعض المظاهر لتأكيد ما نقول:
لقد ضاعت منا فى العقدين الأخيرين فرص المشاركة فى إعمار «العراق»، ورضينا بأقل القليل مثلما حدث لنا بعد تحرير «الكويت»، حيث كان نصيب العمالة المصرية هو إزالة الألغام من أرض ذلك البلد الشقيق، رغم أن الجيش المصرى شارك فى معركة تحريره، بل قادت الدولة المصرية مسار التحالف كله ضد الغزو العراقى، ولولا دخول «مصر» حينذاك فى أتون المواجهة ما انضمت إليها «سوريا» بقيادة الرئيس الراحل «حافظ الأسد»، وهكذا قدر «مصر» دائماً أن تقدم الكثير، وأن ترضى بالقليل. وها هى «الكعكة الليبية» تتقاسمها دول أوروبية، ويسعى إليها الجميع، ونحن ننظر إلى ما يجرى فى مزيجٍ من السذاجة والتعفف اللذين لا مبرر لهما مع أننا دولة جوار كان يجب أن يكون رئيس وزرائها على رأس وفد كبير هو أول المتواجدين فى «بنى غازى» و«طرابلس» المحررتين بعد سنوات طويلة من معاناة «مصر» مع نظام القذافى، فنحن الأولى بمنطق الجوار والمعايشة بتحمل العبء الأكبر من التعمير والبناء والحصول على النصيب الذى تستحقه «مصر» فى عملية تنمية الدولة الشقيقة «ليبيا» بعد سنوات العبث والضياع.
إن مواجهة القضايا الكبرى فى المستقبل التنموى لـ«مصر» هى الأولى بالرعاية والأحق بالاهتمام بدءاً من تعمير «سيناء»، مروراً بنزع ألغام الحرب العالمية الثانية من التربة المصرية، وصولاً إلى كارثة العشوائيات التى تمثل قنبلة موقوتة قابلة للانفجار فى وجه الوطن، فتلك هى القضايا الملحة والمسائل المهمة التى يجب أن تسبق الحديث عن المليونيات أو الوثائق والبيانات بل الانتخابات أيضاً، فأنا لست ضد التمهيد المطلوب للديمقراطية الحقيقية، لكنى أيضاً من أشد المعنيين بالتنمية المستدامة فى بلدٍ جرى إهدار طاقاته وتجريف قدراته والسطو على موارده.
إن الجدل السياسى والفكر التنموى يمكن أن يمضيا معاً دون تناقضٍ أو تعارض، فالارتباط بين الديمقراطية والتنمية أمرٌ عرفته خبرات الأمم وتجارب الشعوب فكل منهما يدعم الآخر، لأنهما كالساقين لا يمكن المشى على إحداهما دون الأخرى، لذلك فإننى أطالب بالتركيز الكامل على التنسيق بين القضيتين فى رؤية واحدة، ولندرك نحن المصريين أن القروض أو حتى الإعانات لن تبنى وطناً شامخاً، لكنها يمكن فقط أن تقيم بنياناً هزيلاً فى المرحلة الانتقالية، ولن يبنى الوطن إلا عقول أبنائه وسواعد شبابه وليست هذه بدعة، لكنها تراث إنسانى عرفته الحضارات وخرجت منه عناصر النهضة وعوامل التقدم.
هذه رؤيتنا الآنية لما يجرى حولنا وسط ضجيج الجدل وصخب الحوار مدركين أن الدنيا لا تنتظرنا، وأن التاريخ لن يرحمنا، وأن حقوق الأجيال القادمة أمانة فى أعناقنا.
جريدة المصري اليوم
17 نوفمبر 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/211533