كتبت عدة مرات - والمقالات منشورة - وتحدثت علناً، فى أكثر من مناسبة، والشهود أحياء على امتداد السنوات الماضية، عن أن عهد «مبارك» هو عهد الفرص الضائعة، وقلت بالحرف إن التاريخ سوف يذكر لـ«عبدالناصر» إنجازاتٍ وإخفاقات وانتصاراتٍ وانكسارات، كما سوف يذكر لعصر «السادات» مواقف مضيئة وقراراتٍ خطيرة وأيضاً أخطاءً ملموسة، فـ«عبدالناصر» هو تأميم «قناة السويس» وهو بناء «السد العالى» وهو الريادة الدولية بـ«عدم الانحياز» والقيادة الإقليمية بـ«القومية العربية» وهو فى الوقت ذاته «دولة المخابرات» و«الحراسات» و«مذبحة القضاء»، كما أن «السادات» هو صاحب القرارين: «قرار الحرب» و«قرار السلام» الذى امتلك رؤية بعيدة لم يحزها قبله إلا «محمد على»، مؤسس «مصر الحديثة»، ومع ذلك فهو أيضاً صاحب سياسة الانفتاح الاستهلاكى والدخول الطفيلية التى عبثت بالخريطة الاجتماعية على نحوٍ مقلق، أما «مبارك» فقد أراح نفسه من الإيجابيات والسلبيات معاً وسوف يقول التاريخ فيه إنه ترك الفرص تفلت من يديه فلم تكن لديه ثورة مثل عبدالناصر يخشى الصراع حول السلطة بعدها، كما لم تكن لديه أرض محتلة مثل السادات يتحتم عليه تحريرها حرباً وسلماً، ولم يكن لديه رفاق سلاح منافسون مثل «عبدالناصر» فلم يكن حوله «عبدالحكيم عامر» أو «عبداللطيف البغدادى» أو «كمال الدين حسين»، كما لم يكن لديه مثل «السادات» حرب جسورة ومفاوضاتٌ شاقة ومواجهة مع «الدولة العبرية» من أجل نقلة نوعية مشهودة فى التاريخ الحديث كله، ولكن مشكلة «مبارك» الحقيقية كانت انعدام إحساسه بعامل الوقت إذ لم يكن قادراً على اتخاذ الخطوة المناسبة فى الوقت، الملائم، ولقد قلت مراراً، أثناء عهده، إنه يبدو لى وكأنه مثل أبناء بعض القوميات الآسيوية فى إحساسه بعنصر الزمن، فهو يتصرف أحياناً وكأن أمامه أبد الدهر أو أن ساعة العمر معطلة، لذلك فقد طالت فترة حكمه لكى تكون أطول من مجموع حكم «نجيب» و«عبدالناصر» و«السادات» معاً، بل زادت عن الخديو «عباس حلمى الثانى» وناطحت بالأرقام فترة حكم «محمد على» ذاته، ومأساة البشر عندما لا يشعرون بقطار الزمن فإنهم لا يدركون توقيت الانصراف الملائم، لقد كانت أمامه محطاتٌ ملائمة للرحيل المناسب والخروج الآمن، مرة بعد حرب الخليج الأولى وتحرير دولة «الكويت» ومرة ثانية بعد محاولة الاعتداء عليه فى «أديس أبابا» وثالثة عندما فقد أكبر أحفاده وتعاطف المصريون مع أحزانه، ورابعة عندما داهمه المرض، ولكن الرجل، لفرط ثقته بدوام الحال واستحالة التغيير، مضى فى طريقه متجاهلاً أصوات الاحتجاج ونداءات الإصلاح، مؤمناً بأن لكلٍ أن يقول ما يشاء، أما هو ونظامه فإنه يفعل ما يريد، ويوم دسست عبارة خبيثة فى أحد المقالات قلت فيها (إن السمكة تفسد من الرأس) التقطها البعض وسجلها علىّ وكان ردى أنها حكمة قديمة لا أستهدف بها شخصاً بذاته!
إن عهد «مبارك» يجسد بالفعل - وكما قرأت لأحد الكتاب النابهين - مزيجاً من سطوة «الفرعون» وفساد «المماليك»، ولذلك العهد الطويل مرجعيات كثيرة فى تاريخنا الطويل، فالدولة المصرية يجرى السطو على مقدراتها منذ آلاف السنين وهى لاتزال صامدة شامخة تردد البيت الشهير لأبى الطيب المتنبى!
واليوم وقد سقط عهد «مبارك» على نحوٍ غير مسبوق فى تاريخنا الحديث فإننى أراه من زاوية مختلفة، فقد كان محنة وطن وأزمة فكر وغياب رؤية أكثر منه أشياء أخرى، إذ إن اختفاء الحس السياسى والاعتماد على الحل الأمنى (وهو ما تعرضت له صراحة منذ عدة أعوام فى مقالٍ بالأهرام تحت عنوان «الإخراج السياسى لمشكلاتنا المتتالية») وصلا بنا إلى ما نحن عليه.
إننى أنهى بذلك مقالاتٍ ستة تحدثت فيها عن «النموذج الهندى»، ثم «النموذج التركى»، ثم «النموذج الإيرانى»، وانتقلت إلى «عهد عبدالناصر»، ثم «عهد السادات»، ثم «عهد مبارك» .. وتظل «مصر» فى خاطرنا جميعًا تؤرق فينا المضاجع، وتجدد الأحزان، وتتطلع إلى خطوات رشيدة على طريق المستقبل الواعد الذى طال انتظاره!
جريدة المصري اليوم
5 مايو 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/206981