تمر بلادنا بواحدة من أصعب مراحل تاريخها الحديث، وأستطيع أن أقول إننا فى مفترق طرق فإما أن نمضى على الطريق الصحيح ونحيل الثورة الشعبية إلى طاقة إيجابية تسعى للبناء والإصلاح وتقتلع الفساد من جذوره وتؤسس لدولة مدنية حديثة قوامها القانون وسبيلها الديمقراطية وهدفها العدالة الاجتماعية وإما أن نمضى على طريق آخر تستهلك فيه الأمة طاقتها بالاستسلام للمواقف الانتقامية وتصفية الحسابات وادعاء البطولات ومحاولة تحقيق أغراض خاصة فى ظروفٍ استثنائية بعد الفشل فى تحقيقها فى الظروف العادية! ولا يعنى ذلك على الإطلاق التراخى فى ضرب الفساد ومعاقبة الفاسدين– بغير استثناء– لأنه لا يعلو رأس على المصلحة العليا للبلاد فى هذه الفترة التى يمر بها الوطن، ولقد لاحظت فى الآونة الأخيرة أن الكل ينكر الآخر ويجحد الغير، وأنا أعلم أنه فى أعقاب الثورات الشعبية والتغييرات الكبرى– مثلما حدث بعد سقوط بعض الديكتاتوريات فى أمريكا اللاتينية وانهيار النظم الشيوعية فى أوروبا الشرقية– تحدث حالة من الفوضى الاجتماعية مع انقسام الولاءات وعدم القدرة على استيعاب المستجدات حيث تسقط رموز وترتفع أخرى ونكون أمام ترتيب جديد فى «لعبة الورق» وتشهد «بورصة البشر» حالات من الصعود والهبوط كل يوم ويتحول أبناء الشعب جميعاً إلى خبراء فى القانون الدستورى وزعماء للحركة الوطنية ومهندسين للسياسة الخارجية، بينما الأجدى والأوفق هو أن تتحول الثورة من انفعال وطنى إلى طاقة عقلية تبنى ما تم هدمه وتعوض ما جرى فقدانه وتختصر الطريق نحو الإصلاح الحقيقى بعيداً عن الشعارات الرنانة والكلمات الكبيرة والعبارات الفضفاضة، وليسمح لى القارئ أن أسجل ملاحظات ثلاثاً:
أولاً: إن أخطر ما يؤرقنى فى هذه الفترة– ربما بحكم التخصص الأكاديمى– هو ما يتصل «بالفتنة الطائفية» فالمطالب الفئوية لا تزعجنى والمظاهرات اليومية لا تخيفنى فتلك كلها مظاهر عابرة تعكس الحالة النفسية لمجتمع يمر بمرحلة تحول بعد سنوات طويلة من التهميش والكبت، ولكن «الفتنة الطائفية» هى المرض المزمن الذى أخشى عوارضه وأتحسب كثيراً من السقوط فى مستنقعها لاسيما أننا تصورنا جميعا أن ثورة 25 يناير 2011 قد غسلت العقول وطهرت القلوب وجعلت المصريين على قلب رجل واحد خصوصاً أن دماء المصريين– مسلمين ومسيحيين– قد اختلطت فى تلك الثورة الفريدة لذلك يحزننى كثيراً أن تطل الطائفية بوجهها الكئيب على هذا الوطن فى هذه الظروف وأتصور مخلصاً أننا قادرون على مواجهة ذلك ووأد «الفتنة الطائفية» إلى الأبد لأننى كنت أتصور دائماً أنها ظاهرة مصطنعة أو مستوردة ولكنها ليست نتاجاً طبيعياً لوطنٍ تعايشت فيه الديانات وتحاورت الثقافات وتعاقبت الحضارات، لذلك فإننى أطالب وبشدة بضرورة وضع أسس ثابتة لمنظومة الإصلاح الشامل والذى يجتث بشكل نهائى شبح «الفتنة الطائفية» من وطننا العزيز ويرضى أبناءه جميعاً بغير استثناء ويحقق المساواة الحقيقية وفقاً لمبدأ «المواطنة» الذى نتشدق به صباح مساء دون أن ندرك معناه أو نفكر فى مغزاه.
ثانياً: لا ينبغى أن ننسى فى غمار «مصر الثورة» أن «مصر الدولة» تبلغ من العمر آلاف السنين فى مجتمع نهرى قديم عرف الإدارة منذ فجر التاريخ، ولذلك فإن علينا جميعاً أن ندرك أن نظاماً مرفوضاً قد سقط ولكن الدولة باقية وإذا كانت بعض مؤسساتها قد واجهت ما يشبه الانهيار ألا كل شىء قابل للإصلاح وفى أقصر وقت إذا صدقت العزيمة واستيقظت الضمائر وتوهجت العقول كما أن الوطن المصرى غنى بالكفاءات عامر بالقدرات بل ومتخم بالخبرات وقد جاء الوقت الذى يجب أن ألا نبدد فيه هذه الثروة البشرية ولا نهدر معه تلك الطاقات البناءة وكفانا ما ضاع عبر العقود الأخيرة لبلدٍ عرف الضغوط الخارجية دائماً والمشكلات الحادة أحياناً ولكنه تواصل مع الزمان بعقدٍ غير مكتوب استطاعت به «مصر» أن تصمد أمام كل التحديات وقهرت الغزاة والبغاة والطغاة على مر القرون.
ثالثاً: إننى أظن أن السياسة المصرية الخارجية - خصوصاً على المستويين العربى والأفريقى- تنتظرها تحديات لا ننكرها وهى تحتاج بطبيعتها إلى قرارات عاجلة وجهد ذكى خصوصا أن صورة «مصر» الدولية والإقليمية تعيد إلى الأذهان صورتها بعد نصر عام 1973 بل ربما تزيد عنه حيث لا يوجد من يجادل فى تألقها أو ينتقص من قدرها أو لا يحترم شبابها، ولعل «مسألة مياه النيل» وتوقيع دولة جديدة على الاتفاقية الإطارية لمياه النهر هو واحد من أول التحديات التى يجب اقتحامها بفكر تنموى وعقلية سياسية رصينة تستشرف المستقبل وتعمل من أجل أجيالنا التى لا تزال فى ضمير الغيب، كذلك فإننى أعترف هنا أن الأشقاء العرب فى معظمهم قد احتضنوا ثورة يناير المصرية وخرجت مظاهراتهم تأييداً لها وحرصاً عليها ولسان حالهم يقول لقد عادت إلينا الشقيقة الكبرى بعد طول غياب.
هذه خواطر مصرى عرف السياسة العامة فى العقود الخمسة الأخيرة وخرج منها بحكمة واحدة وهى أن الكل ذاهب ولكن «مصر» هى الباقية!
جريدة المصري اليوم
17 مارس 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/205008