الفروسية أن تقول كلمة الحق فى مواجهة من يملك البطش بك وتشويه صورتك، وليست الفروسية هى تصفية الحسابات فى ظروف استثنائية على حساب الحقيقة، فالوطنى الصادق هو ذلك الذى قال ما يشعر به وعبر عن نفسه فى أحلك الظروف وأصعب الأوقات ودفع الفاتورة المطلوبة فى كل مرحلة، إن الوطنى الحقيقى هو الذى لا تتغير مبادئه ولكن تتأرجح مواقفه لأن ضميره يمضى وراء الحقيقة، سواء كانت فى جانب الحكومة أو المعارضة، فالمواطن الصالح هو الذى يضع مصلحة «مصر» فوق كل اعتبار، بل ويضحى بمشروعه الإنسانى الخاص ويفقد المواقع ويحرم من بعضها، اتساقاً مع ما يؤمن به واحتراماً لذاته، إن ادعاء البطولة سهل وتسجيل المواقف أسهل، ولكن ذلك لا يعنى أننا نسبح فى فضاء مطلق نقول فيه كل ما نريد.
إذ إن هناك توازنات وحسابات لا تخفى على أحد، كما أن الخوف ظاهرة بشرية (من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر) أقول هذه المقدمة بعد أن كتبت عن ما يقرب من مائتى شخصية على امتداد ما يقرب من أربع سنوات، حاولت بها أن أقول بعض ما أريد من خلال من أكتب عنهم أو أشير إلى علاقتى بهم، لقد كتبت عن الأستاذ «محمد حسنين هيكل» ودفعت الثمن حرماناً من الكتابة فى الأهرام لمدة عام كامل، وكتبت عن الفريق «سعد الدين الشاذلى» وعن المشير «أبوغزالة» وعن «سيف الإسلام البنا» وغيرهم، وكنت أستقبل نظرات الشك تجاهى من رموز الحكم بنفسٍ راضية، ولا بد أن أعترف هنا أننى أحترم السنوات الثمانى التى قضيتها سكرتيراً للمعلومات مع الرئيس السابق «محمد حسنى مبارك»، وأعترف هنا بأننى على المستوى الإنسانى أذكر للرجل مشاعر تصنعها ألفة العمل وذكريات السنين، خصوصاً أنه قد انقضى على تركى لمؤسسة الرئاسة تسعة عشر عاماً، ولكننى على الجانب السياسى كانت لى ملاحظات وملاحظات تحفل بها مقالاتى وكتبى ولقاءات تليفزيونية وإذاعية وأحاديث صحفية، حتى إن صحيفة الحزب الوطنى الذى كنت أنتمى إليه قد كرست صفحتين كاملتين هجوماً على، ولم تكن بيدى سلطة أرد بها فى وقتٍ كانت صحف المعارضة تهاجمنى أيضاً لأننى قلت فى حديث صحفى إن «الولايات المتحدة الأمريكية» و«إسرائيل» معنيتان بأى رئيس مصرى قادم لأهمية الدولة ومكانتها الإقليمية وما أعطاه لها التاريخ وما حبتها بها الجغرافيا، ويومها قامت الدنيا ولم تقعد ولكن دعوات أمى الراحلة كانت على ما يبدو حصناً يجعل العقوبات هى رسائل لوم متتالية فقط وإعفاءٌ من مواقع واهية وإغفال عن تصعيدات متوقعة! إلى أن جاءت العثرة الحقيقية عندما ذهبت إلى «مدينة دمنهور»، مرشحاً عام 2005 وإذا كان البعض يرى أن النظام السابق قد جاملنى بعضوية المجلس بغير حقٍ، إلا أن رأى محكمة النقض بعد ذلك قد أعطانى مبرراً نفسياً للاستمرار فى موقعى، ويجب أن أضيف هنا فى شجاعة وصراحة أن أى دعم رسمى لى فى تلك الانتخابات لم يكن مجاملة لشخصى، بقدر ما كان عداء لخصمى وعلى كل حال فهذا الموضوع برمته سقطة لم يكن لها مبرر، وقديماً قالوا (لكل جوادٍ كبوة)!
إنها لحظة وضوح مع النفس ونقاء للضمير وشفافية أمام البشر، يجب أن نمضى فيها جميعاً من أجل بناء وطنٍ يقاوم الفساد ويكافح الفقر ويسعى لاستعادة دوره الإقليمى، خصوصاً على الصعيدين العربى والأفريقى، مدركين أن «قيادة الأوطان غير إدارة الشركات» ومؤمنين بأن «الرؤية والإرادة» عنصران أساسيان فى نهضة الأمم ورفعة الشعوب، وإذا كانت «مصر» فى الشهور القادمة تمضى على طريق ترتيبات دستورية وتشريعية وبرلمانية وتسعى لإقامة دعائم دولة عصرية حديثة فإننا نراها أيضاً لحظة تأمل فيما حدث وتصور لما هو قادم، ولن أنسى فى حياتى تلك التحية العسكرية المحترمة التى أداها المتحدث الرسمى باسم «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» لشهداء ثورة 25 يناير 2011 وهو يسجل بذلك موقفاً تاريخياً للقوات المسلحة المصرية التى كانت ولا تزال وسوف تبقى مدرسة فى الوطنية الحقيقية، ونحن إذ نتطلع إلى دولة مدنية تفتح المجال لكل القوى السياسية – بغير استثناء – لتسهم فى بناء صرح هذا الوطن العظيم فإننا نحيى من سقطوا شهداء من أجل «مصر» فى لحظة فارقة ومرحلة مفصلية فى مسيرة الأمة، وما من عبارة ذكرناها اليوم عبر هذه السطور إلا وقلناها من قبل، فقد نبهنا عام 2002 إلى ظاهرة الزواج المبكر بين السلطة والثروة وحذرنا من تراجع دور مصر الإقليمى منذ سنوات وحافظنا على رؤية قومية لم ننسحب منها أبداً مع إيمان راسخ بمبدأ المواطنة أسهمنا فيه – بمبادرة ذاتية – لمواجهة أحداث «الفتنة الطائفية» وجعلنا الوطن قبلتنا الوحيدة التى لن نحيد عنها أبداً، ومنذ اليوم الأول لأحداث الثورة الشعبية اتخذنا موقفاً واضحاً يدعم الثوار ويسعى إلى التغيير، ولكنه لا يسب أحداً ولا يسىء إلى مسؤول سابقٍ أو لاحق ولا يلعب لعبة تصفية الحسابات، ذلك أننى مؤمن دائماً بأن كل مصرىٍ يحاول من أجل وطنه بقدر ما أتيح له من ضوء، بقيت كلمة أخيرة أشعر معها باعتزاز وفخر بمكانة الكنانة دولياً، فلقد حبست الدنيا كلها أنفاسها ووقف الأشقاء العرب على أطراف أصابعهم واتجهت كل الأبصار إلى «ميدان التحرير» فى قلب العاصمة المصرية تحيى الشباب الثائر وقد سعيت إليهم شخصياً لأرى مشهداً قد لا يتكرر فى سنوات عمرى الباقية، فاستقبلنى الكثيرون بالود والترحاب واعترض البعض، مرددين هتاف انتخابات 2005، وكأن الناس لا يرون فى الثوب الأبيض إلا تلك البقعة الرمادية التى فرضتها ظروفٌ لا أخوض فيها.. إننا أمة عريقة لا يجب أن تستقبل القادم بالتصفيق وتودع الذاهب بالصفير ولكنها يجب أن تستقبل وتودع بكلمة واحدة هى «مصر» وطن الشرفاء دائماً.
جريدة المصري اليوم
17 فبراير 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/51796