ستظل القارة الأفريقية هى الأم الحاضنة لمصر العريقة، فمن هضابها تأتى المياه، وبالتواصل معها تستمر الحياة، وإذا كانت هناك دوائر متعددة تشكل الأبعاد الأساسية للدولة المصرية فإن البعد الأفريقى هو العمق الاستراتيجى لبلد يرتبط ارتباطًا عضويًا بالسودان الشقيق، حتى إن نسبة غالبة من التكوين السكانى المصرى هى من أصول أفريقية، رغم أننا نقف على ناصية متميزة فى الزاوية الشمالية الشرقية لتلك القارة فى مواجهة مباشرة مع غرب آسيا وجنوب أوروبا، ولكن العمق الأفريقى هو الغالب، وذلك طبيعى بمنطق الجغرافيا وحكم التاريخ.. ولقد تراوحت العلاقات المصرية الأفريقية قربًا وبعدًا لفترات زمنية معينة، فمنذ عصر «محمد على» وفتوحاته الكبرى وصلت قواته إلى الساحل الشرقى لأفريقيا وسيطرت على منابع النيل، وتمكنت بأسلوب الضم والاحتواء من اقتطاع أجزاء من السودان- جنوبه وشماله- حتى إن ملك «أوغندا» فى ذلك الوقت طالب بتطبيق حق الضم على بلاده لكى يكون جزءًا من الإمبراطورية المصرية فى عهد «محمد على»، ثم توالت الأحداث صعودًا وهبوطًا، ولعب الأجنبى دورًا خبيثًا بمبدأ «فرق تسد» حتى أساء نسبيًا إلى الوجه المصرى فى السودان، وربما أفريقيا كلها، باعتبار أن الشخصية المصرية تنظر إلى أفريقيا نظرة دونية، وتتعامل معها بمنطق لا يخلو من عنصرية طارئة، إلى أن قامت ثورة عام 1952 وأطاحت بالملك وعرشه، وهو الذى كان يحمل تاج مصر والسودان، وقصة ثورة يوليو مع أفريقيا تمثل رؤيتها للسودان كله، فنحن نتذكر الدبلوماسية الراقصة للصاغ «صلاح سالم»، عضو مجلس قيادة الثورة، ونتذكر أيضًا التعاطف الذى كان يحظى به «نجيب» فى صراعه مع «عبدالناصر»، إذ إن الأول محسوب على السودان دمًا وتاريخًا رغم أنه ابن «مركز كفر الزيات» فى «محافظة الغربية»، ولعلى أزعم هنا أن «عبدالناصر» الذى تحول بعد ذلك إلى مارد أفريقى كبير وبطل للتحرير ورائد للتنوير قد اتجه إلى الشمال الشرقى، خصوصًا بعد أن صوت السودانيون، وفى مقدمتهم الحزب الاتحادى برئاسة «إسماعيل الأزهرى»، على الاستقلال الذى تحقق فى أول يناير عام 1956، وعندما قامت الوحدة المصرية السورية كانت هناك أصوات ترفع شعار (السودان أولًا)، ورغم أنها كانت أصواتًا قليلة لم تزد كثيرًا على مظاهرة محدودة لبعض طلاب «جامعة الإسكندرية» إلا أنها كانت مؤشرًا كامنًا لمن يرون الأولوية للبعد الأفريقى، وينظرون إلى السودان باعتباره التوأم للدولة المصرية، وهنا نطرح الملاحظتين التاليتين:
أولًا: إن سنوات العصر الناصرى كانت بالتأكيد تمثل عصرًا ذهبيًا فى العلاقات المصرية الأفريقية، حيث لعب فيها ضابط شاب مثقف ونابه من مكتب عبدالناصر هو السيد «محمد فايق» دورًا محوريًا يدعمه «عبدالناصر» شخصيًا، مستندًا إلى كاريزما سياساته التى جعلت منه بطلًا قوميًا وزعيمًا أفريقيًا واسمًا دوليًا مدويًا، فانعقدت فى القاهرة القمم الأفريقية، وحاولت دبلوماسية «عبدالناصر» ترميم العلاقات مع السودان وترويض الإمبراطور الإثيوبى «هيلا سلاسى» حتى كانت مصر إحدى الدول المهمة المؤسسة لمنظمة الوحدة الأفريقية فى مايو عام 1963.. ونتذكر الآن أن فيلا صغيرة فى شارع «أحمد حشمت» بالزمالك كانت مقرًا لقادة حركات التحرير، وخرج منها فى عام واحد عدد من رؤساء الدول الأفريقية الذين عادوا لبلادهم ليقودوها بعد سنوات النضال فى المنفى.
ثانيًا: عندما جاء الرئيس السادات إلى الحكم لم تتوقف السياسة المصرية الأفريقية عن مسارها، وحمل الشعلة دبلوماسى أكاديمى قدير هو «بطرس بطرس غالى»، الذى واصل نفس الدور فى عصر الرئيس «مبارك»، إلى أن حدثت المحاولة الآثمة لاغتيال الرئيس المصرى فى «أديس أبابا»، الذى امتنع بعدها لعدة سنوات عن حضور القمم الأفريقية، فى وقتٍ استردت فيه دولة جنوب أفريقيا مكانتها بثقلها الاقتصادى والتكنولوجى لكى تكون مزاحمة بشدة للدور المصرى على الساحة الدولية.
وها هى مصر تستعيد دورها حاليًا رغم كل العقبات والمصاعب، بدءًا من مسألة «سد النهضة» الإثيوبى، مرورًا بقضية «حلايب»، وصولًا إلى التوجهات الجديدة لسياسة مصر التى تستمدها من «أنوار أفريقيا».
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1348587