كتب «نيوتن» فى جريدة «المصرى اليوم» يوم الجمعة 7 ديسمبر 2018 مقالًا يدور حول ما يمكن أن نسميه فلسفة المراجعة للسياسات المستخدمة فى فترة معينة، ولأننى أخمن دائمًا أن «نيوتن» هو مؤسس «المصرى اليوم» ذاته وحفيد (صاحب الجهاد) «توفيق دياب» لأننى أعرف شخصيته المتقدة ذكاءً والمتوهجة فكرًا والرافضة كل المسلمات إلا ما اقتنعت به. هذا يتطابق مع ما يأتى به نيوتن من أفكار. أنا أؤيد هنا ما جاء فى هذا المقال، بل أتحمس له، خصوصًا أنه كان موضوعيًا إلى حد بعيد فى ذلك المقال، حتى إنه أعطى الرئيس الراحل «عبدالناصر» ما يستحقه، رغم أنه فى الحقيقة من معارضى سياساته، ولكنه من المؤمنين بقيمته الوطنية ومكانته فى التاريخ القومى، لذلك عبّر عن تقديره للمراجعات المباشرة التى أجراها الرئيس «عبدالناصر» فى اجتماعات اللجنة التنفيذية فى شهور ما بعد نكسة عام 1967، وكانت تنضح صدقًا، وتشير إلى أن ذلك الرجل قد أدرك تمامًا أخطاء المرحلة السابقة وقام بعملية نقد ذاتى، قَلَّما يقوم بها ساسة وحكام، وفى ظنى هنا أن السياسة أسلوب مرن وليست خطًا جامدًا ولا قناعة راسخة، فالمبادئ يجب أن تبقى ثابتة، ولكن السياسات يمكن أن تكون متغيرة وفقًا لظروف الزمان والمكان والبيئة الاجتماعية والمناخ السياسى، ولقد رأينا فى تاريخ الفكر الإنسانى نموذج «شيشرون» الذى انتقل من اتجاه إلى آخر، كما أننى أتذكر على الصعيد المصرى نموذجين لصديقين لا يغيبان عن ذهنى: أحدهما «طارق البشرى»، الذى انتقل من اليسار الوطنى إلى الولاء لمنطق الإسلام السياسى.
... كذلك فإننى أتذكر أيضًا د. «ميلاد حنا» الذى انتقل من اليسار الوطنى أيضًا إلى نمط جديد من الفكر الذى يتعاطف مع مشكلات الطائفة ويحنو عليها حتى ولو كان ذلك خارج سياق مبادئه التاريخية، وتلك هى النتيجة الطبيعية لوقر السنين ومُضى الأزمنة وتتابع الأحداث، لذلك فإن الجمود الفكرى ليس ميزة، كما أن الانغلاق السياسى ليس نِعمة، ولكن الأصل فى الحياة السياسية أن يراجع المرء مواقفه من حين إلى آخر، معترفًا بأخطائه، ناقدًا لسياساته، داعيًا إلى نوع من التجديد حتى ولو كان ذلك خارج الصندوق التقليدى، وأنا شخصيًا ممن يؤمنون بذلك ويرون أن على المرء أن يراجع آراءه وأن يبحث فى أفكاره من حين إلى آخر، لأن الجمود مرض، كما أن التمسك بالمواقف مهما كانت المتغيرات هو نوع من الانتحار السياسى الذى لا مبرر له، ولقد عرفت شخصيًا نماذج متعددة للانقلاب السياسى على الفكر الذى اعتنقه أصحابه والوثائق التى قدموها، ولا يمكن أبدًا اتهام شخص عندما يقوم بعملية نقد لماضيه بأنه رجل بلا مبادئ، بل العكس هو الصحيح، لأن الحياة طريقة قبل أن تكون حقيقة!. ومن العبث أن يتحمل البعض خطيئة الغير حتى وإن لم توجد لذلك أسباب موضوعية، إلا أن الفهم الصحيح للدور الذى يمكن أن نلعبه جميعًا، وهو التشجيع على كل ما من شأنه أن يغير الأوضاع بلا دماء أو عنف، بلا تسلط أو رأى متشدد، نحن نريده أن يكون نقطة تحول إيجابية تسمح لنا بأن ننظر إلى ما فعلناه نظرة موضوعية ليس فيها شخصنة، كما أنها تكون بريئة من أى عوامل تطمس الحقيقة وتنال منها، لأننا نؤمن مرة أخرى بأن السياسة طريقة قبل أن تكون حقيقة.
إن مقال «نيوتن» حول موضوع المراجعات يفتح بابًا للحوار العاقل بدلًا من تبادل الاتهامات بالتخوين والتحول والنكوص، فالفكر الواعى متفتح بطبيعته على سواه، ولقد كان صادقًا عندما لم يتحدث عن مراجعات «عبدالناصر» وحده، ولكنه تحدث عن مراجعات القيادة الصينية أيضًا، وأنا أضيف إليها عشرات الأمثلة من التراث الفكرى الباقى والتاريخ السياسى المعاصر، فالجمود نوع من التوقف عن إعمال الفكر وتحريك الرأى والتوجه إلى الناس بما يريدون أو لا يريدون، إننى مؤمن بديناميكية الحياة السياسية، رافضٌ للتشبث الأحمق برأى مهما بدت وجاهته، فالدنيا تمرُّ والعالم يتغير وحالة الثبات هى حالة نظرية لا وجود لها، بل على العكس فإن المُضى عكس التيار أحيانًا قد يكون أكثر المواقف نضوجًا وطهارة وصدقًا، فـ«عبدالناصر» عندما راجع أخطاء سياساته بشكل مذهل فى اجتماعات أعلى سلطة سياسية فى حكمه، فإنه قد كتب شهادة إبراء ذمة للتاريخ بكل ما له وما عليه.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1350488