فزعني مثل غيري تلك الروح الانتقامية الوافدة علي الشعب المصري في الفترة الأخيرة ولست أشك في أنها رد فعل متوقع للشحن الطويل من القهر السياسي والفساد الاقتصادي والتراجع الثقافي في العقود الأخيرة.
ولكن الكثيرين يتساءلون حولنا ماذا جري لهذا الشعب الذي كان معروفا بالتسامح وسعة الصدر فما باله اليوم يفرز أحقادا دفينة ويطرح غضبا عارما ويمارس عنفا غير مبرر في كثير من الأحيان، هل تغير المزاج المصري أم أن شيئا ما قد طرأ علي الشخصية الوطنية دفع الانفعالات الانتقامية للسيطرة علي هذه الفترة الانتقالية؟!
ولست أدعو من خلال هذه الكلمات إلي نوع من الصفح العفوي أو إسقاط الحقوق أو إهدار الدماء، بل إنني أقول صراحة إن كل شيء قابل للمناقشة إلا أرواح الشهداء، وإني إذ أدعو اليوم أبناء هذا الوطن الواحد إلي مراجعة سريعة للوضع الراهن واحتمالات المستقبل أمامه فإنني أرصد وبكل أمانة الضباب الذي يغلف حياتنا والغيوم التي تحجب الرؤية أمامنا والصخب الشديد الذي أصبح سمة لنا وإذ أقول ذلك فإن عيني علي تجارب سبقتنا وشعوب مرت بمثل ظروفنا واستطاعت أن تجتاز العوائق والصعاب بثبات وصبر ورحابة وطنية ورؤية شاملة، دعونا نطرح ما نريد أن نتحدث عنه من خلال النقاط التالية:
أولا: إن المصالحة الوطنية الشاملة لا تعني علي الإطلاق نسيان الماضي أو إغلاق الملفات ولكنها تعني بالدرجة الأولي إحداث عملية تعبئة شاملة تسمح لنا بالتحرك إلي الأمام دون أن ننسي أهمية القاء نظرة إلي الوراء بين حين وآخر إذ ليس المطلوب أبدا أن نعفو عن مستبد أو نتستر علي جريمة ولكن المطلوب بشدة أن نعلي المصلحة العليا للبلاد ونعلو علي الجراح وننظر إلي المستقبل أكثر من نظرتنا للماضي، وقد تكون تجربة دولة جنوب إفريقيا بقيادة مناضل العصر نيلسون مانديلا نموذجا يستحق الدراسة والتأمل بعدما سقط النظام العنصري في تلك الدولة الإفريقية الكبيرة متعددة الأصول والأعراق من أفارقة وأوربيين وهنود وغيرهم، فما بالنا بشعب مصر المتجانس تاريخيا المنصهر حضاريا أليس جديرا به أن يمضي علي طريق يسمح لهذا الوطن المنصهر تاريخيا المتوحد ثقافيا بأن يمضي علي طريق يقترب من تلك التجربة الإنسانية الرائعة، وأعود فأكرر إن الدماء لا تقدر بثمن كما أن الشهداء نجوم يرصعون تاريخ الوطن ولكن قضايا النهب والسلب وسرقة الأموال تحتاج إلي مصالحة من نوع آخر ونظرة مختلفة عما نحن عليه فالقضاء يأخذ مجراه ولكن القافلة يجب أن تمضي في طريقها دون توقف ولا يخفي علينا أن كثيرا من قطاعات الدولة المصرية مصابة بنوع من الشلل الوقتي الذي يجب أن نواجهه في شجاعة وجسارة وإيمان، وقد يقول قائل إن ظروفنا تختلف فقد كانت القضية في جنوب إفريقيا قضية ثقافية ذات بعد تاريخي وعندما نبذ المجتمع هناك الأساليب العنصرية كان مستعدا بالضرورة إلي استلهام روح العصر والاتجاه نحو المستقبل بشكل مختلف فلا يمكن أن نظل أسري للماضي وعبيدا للأحزان بل يجب أن ننطلق جميعا في سماحة ورضا وراء من تأتي به صناديق الانتخاب ومن جاءت بهم الانتخابات البرلمانية أيضا، ولكن عليه وعليهم القدرة علي لم الشمل واستيعاب الواقع لأن الوقت يمضي والوطن ينزف والموارد تتراجع والأزمات تطل علينا كل يوم.
ثانيا: إن الجدل الزاعق الذي يدور والحوار الهابط الذي نستمع إليه والتراشق بالاتهامات وتبادل السباب والنقد المتجاوز كل هذه أمور تدعونا إلي تأمل ما يجري بعين موضوعية ترتفع فوق الآلام سعيا وراء تحقيق الآمال والأحلام، والمسألة ليست بهذه السهولة فأنا أدرك كما يدرك الجميع صعوبة تجاوز ما كنا عليه وما عشنا فيه لكن الأمر في النهاية يحتاج إلي شجاعة الصفح وشيوع روح المصالحة والقدرة علي الفكاك من قبضة الماضي اللعين.
ثالثا: إن حزب الحرية والعدالة ومن بعده الأحزاب السلفية مسئولون بالدرجة عن تحريك الشعب وتعبئة قواه تجاه مسيرة مدروسة للإصلاح تشارك فيها كل القوي السياسية والخبرات الوطنية دون تفرقة أو استبعاد أو إقصاء، وكفانا حزنا أن النظام السابق قد قام بتجريف مصر من أغلي مواردها البشرية وحصر نطاق حركته في إطار محدود علي نحو أدي إلي حرمان كفاءات متميزة من ممارسة دورها الفاعل علي الساحة الوطنية والمسرح السياسي، لذلك يجب ألا تقع الأغلبية الجديدة في أخطاء الأغلبية السابقة وإلا فإننا نعيد إنتاج الماضي من حيث الشكل علي الأقل.
رابعا: إن سقوط جدار الخوف لا يعني انهيار القيم أو العبث بالتقاليد أو الإطاحة بالقانون أو تجميد احترام الأكبر والأكثر خبرة، فالتواصل بين الأجيال هو آلية الحركة نحو المستقبل وصمام أمانها وواهم من يتصور أن الإصلاح يبدأ من جيل معين أو تيار بذاته فالكل شركاء في صناعة المستقبل وصياغة الحياة الجديدة لشعب عاني طويلا وحان وقت دخوله بوابة العصر بشكل مدروس ومنطق حضاري يقوم علي رؤية شاملة وإدارة واعية.
خامسا: علينا أن ننظر للخطر المحدق بنا من كل اتجاه والذي يلزمنا بقدر كبير من الحذر واليقظة خصوصا علي المستويين العسكري والاقتصادي فالدولة العبرية ترصد كل ما يدور في أروقة السياسة المصرية وتتابع عن كثب ما يجري علي أرض أكبر دولة عربية هي رائدة المنطقة تاريخيا ومركزها جغرافيا، ولم يكن وزير خارجية إسرائيل يهذي عندما قال إن (الثورة المصرية أشد خطرا علي إسرائيل من إيران) كما أن بعض تصريحات مرشحي الرئاسة المصرية قد أثارت قلقا لدي حكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت في إسرائيل أخيرا علي نحو يتخذه غلاة المتعصبين هناك مبررا للاستعداد لعمل عدواني جديد قد تكون بعض مناطق شمال سيناء هدفا له.
.. أليس الأجدر بنا ـ أيها السادة ـ أن نركز اهتمامنا علي ما يدور حولنا محليا وإقليميا ودوليا بدلا من الخطاب الانتقائي الذي يحجب الرؤية ويعدم الإرادة، إن مصر بلد ثري بتراثها وشعبها ويجب أن تمضي علي طريق أفضل بكثير مما هي عليه، فالانتقام سهل، لكن المصالحة هي التي تحتاج إلي شجاعة وطنية كما أن الهدم تصرف سلبي ولكن البناء الجاد هو طريق الوطن نحو المستقبل الواعد.
جريدة الاهرام
11 يونيو 2012
http://www.ahram.org.eg/Archive/927/2012/6/11/4/154708.aspx