تجاوز حجم الفرد حدوده وطغي علي المؤسسة التي يقودها أو يديرها أو يمثلها، وأصبحنا أمام ظاهرة تستحق الدراسة والتأمل لأن جزءا كبيرا من مشكلاتنا المعاصرة ارتبط بهذه القضية وهي قضية العلاقة بين الفرد والمؤسسة في مصر،.
وقد ينظر إليها البعض باعتبارها مسألة إدارية بحتة، بينما الأمر من وجهة نظرنا يختلف تماما، فالقضية أكبر من ذلك وأشمل لأنها تتضمن العلاقة بين الفرد والجماعة، بين القدرة الشخصية علي الإدارة أو القيادة في جانب واستجابة الجموع لنمط معين منها في جانب آخر.
ولقد ارتبط تاريخنا الحديث، خصوصا بعد ثورة يوليو1952، بشيء من ذلك، فاقترنت الإنجازات بفرد وارتبطت الأحقاب بشخص واختزلنا ـ بوعي أو بغير وعي كل إنجازاتنا بل كل جهودنا في وعاء يصب في مسار واحد هو الشخصنة إذ إن نموذج الرأس بالنسبة للجسد قد تحول تلقائيا ليصبح هو النمط الذي يسود ويقود، ولم نعرف إلا نماذج نادرة لذوبان الفرد في المؤسسة، وهو أمر يستدعي لدي ما سمعته من الراحل العظيم زكريا محيي الدين أحد ثوار يوليو البارزين ونائب رئيس الجمهورية الذي أسس المخابرات العامة المصرية، وكان وزيرا للداخلية ورئيسا للوزراء، وبرغم ندرة ما أدلي به من أحاديث وامتناعه الكامل عن إبداء آرائه في الآخرين، أو تقديم مذكراته للأجيال الجديدة، فإن الحظ ـ والحظ وحده ـ قد أتاح لي إن أجلس إلي الرجل عدة ساعات وقد تجاوز وقتها الثمانين من عمره بعدما تلقيت اتصالا هاتفيا من صديق يقول لي أن السيد زكريا محيي الدين سوف يتوقف في مطار فيينا حيث كنت أعمل سفيرا لبلادي وأن مدة بقائه سوف تستمر عدة ساعات في طريق عودته من إحدي المصحات في الجمهورية التشيكية ورأيتها فرصة ذهبية لأني أحترم الرجل كثيرا وأقدر تاريخه الناصع، لذلك سعيت متحمسا لاستقباله وأمضيت معه عدة ساعات، حيث كان بصحبته ابنته الفاضلة وبرغم أن جسده كان واهنا، فإن عقله كان متوهجا، وقد فتحت معه أحاديث طويلة خلال لقائنا بدأتها بالاستفسار منه عن سبب عزوفه عن كتابة المذكرات، أو الإدلاء بالتصريحات برغم أنه عاش حياة ثرية بالممارسة والعطاء، وكانت إجابة ذلك الرجل الهادئ الوقور هي أنه يترك للتاريخ وحده أن يحكم علي الأفعال ولو بعد حين، بدلا من استباق ذلك بإصدار أحكام شخصية أو تبرير مواقف ذاتية، وأكبرت ذلك في الرجل وتسللت إليه من مداخل بدأتها بقولي إن الكل يدرك أن زكريا محيي الدين هو مسئول العمليات ليلة الثورة وهو الذي وضع الخطة العسكرية للاستيلاء علي المواقع الحساسة في الجيش، والمضي في طريق الثورة فرد الرجل في تواضع قائلا إنه جلس مع البكباشي جمال عبد الناصر القائد الحقيقي للثورة ومجموعة من كبار الضباط الأحرار وأخرج لهم خريطة التحرك في المواقع المختلفة والتكليفات المطلوبة من القوات كل حسب مسئوليته واستمع عبد الناصر وآخرون والتزموا بالخطة تماما وغادر زكريا محيي الدين مكان الاجتماع وعلم فيما بعد أن عبد الناصر قد قال تعليقا علي ما فعله زكريا محيي الدين من خطط وتوجيهات( إن زكريا يتوهم أنه قائد الثورة!) يحكي الرجل ذلك بلا تعليق ويتحدث عن عبدالناصر باحترام، وسألته عن ليلة التنحي وهل اختاره عبدالناصر بديلا له لحرقه جماهيريا فقال لي: إن السبب أن الرئيس تصور أن زكريا محيي الدين أقدر من غيره علي التفاهم مع الأمريكان والتعامل مع المتغيرات الجديدة في ظل الظروف المعقدة بعد النكسة العسكرية لمصر والعرب، إنني أحكي هذه القصة لكي أوضح طبيعة الصراع بين الفرد والمؤسسة حتي في غضون أحداث ثورة وترتيبات حاسمة لتغيير ضخم جعل المسار المصري يتجه في طريق مختلف، ولنا ملاحظتان نسجلهما في هذا السياق:
الأولي: إن الفرد في بلادنا لديه شعور متضخم بالأنا يدفعه إلي أن يحيل المنصب إلي دومين خاص بالمفهوم الإقطاعي للعصور الوسطي فهو صاحب القرار والكلمة العليا والمسافة بينه وبين الرجل الثاني عدة أميال، إنها طبيعة فرعونية تأصلت في أعماقنا ومازالت تمارس دورها علي كل المستويات، وباعتباري دبلوماسيا سابقا فإنني أتذكر أننا كنا نقول خارجية محمود فوزي أو خارجية محمود رياض أو خارجية إسماعيل فهمي أو خارجية عصمت عبد المجيد أو خارجية عمرو موسي حتي خارجية أحمد ماهر، والسبب في ذلك أن دور الفرد علي قمة المؤسسة ينعكس علي شخصيتها ويحدد مسارها ويبدو أحيانا أقوي منها.
الثانية: إن أحداث الخامس والعشرين من يناير2011 التي كسرت حاجز الخوف أسقطت معها إلي حد كبير مبررات طغيان الفرد علي المؤسسة واستئثاره بالدور الكبير علي حسابها، ونحن نتطلع إلي مزيد من التوازن بين الفرد والمؤسسة في المستقبل بحيث يتوقف طغيانه عليها وسيطرته علي كل أفرادها، وإذا تحقق ذلك فسوف نعتبره واحدا من أكبر إنجازات الثورة الشعبية المصرية التي اندلعت في25 يناير.2011
.. إنني أريد أن أقول صراحة إن ذوبان الفرد في المؤسسة هو دليل تقدم وتعبير عن الاتجاه الصحيح نحو المستقبل فإذا تأملنا المؤسسات الغربية فسوف نجد أنها تتميز بقدر كبير من الثبات والاستقرار لأنها تقوم علي تقاليد راسخة لا تتغير بتغير الأشخاص ولا تتأثر ببقائهم أو زوالهم، ونحن نتطلع إلي شيء من ذلك في بلادنا عندما تقوم المؤسسة ـ سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافيةـ علي مقومات لها صفة الدوام والاحترام بحيث يكون دور الفرد في قيادتها دورا ثابتا ومحددا لا يتأثر بالأهواء ولا بأنماط الشخصية ولا بالأجندات الذاتية، ويوم يتحقق ذلك نكون قد قطعنا شوطا طويلا نحو الحداثة وتشييد الدولة العصرية وتكريس دعائم النهضة المصرية.
جريدة الاهرام
25 يونيو 2012
http://www.ahram.org.eg/Archive/941/2012/6/25/4/157327.aspx