لا يعرف الكثيرون أن إمام الدعاة الشيخ (محمد متولى الشعراوى) كان شخصية اجتماعية بالغة اللطف، سريعة البديهة، حاضرة النكتة، غير متزمت فى تعامله مع الآخرين، وبالرغم من مكانته الدينية الرفيعة فإنه كان متواضعًا، يسهل الوصول إليه، والتحدث معه، ولقد جمعتنى به صلات كثيرة عبر السنين، ولكن المشهد الذى لا أنساه هو أنه ذات يوم فى منتصف سبعينيات القرن الماضى، وأنا أعمل بالسفارة المصرية فى (لندن)، وخلال إحدى المناسبات الدبلوماسية الكبيرة فى حديقة السفارة، أشار زميلى د.رزق طعيمة إلى شخص نحيل، طويل القامة، يرتدى سترة داكنة اللون، لا تخلو من أناقة ظاهرة مع فتحة (البنطال) الواسعة -حسب موضة تلك الأيام- وقال لى هل تعرف من هذا؟ فأجبت بالنفى، فقال لى: إنه الشيخ (الشعراوى)، وكانت شهرته قد بدأت تنتشر، وأصبح اسمه معروفًا، كما كان فى ذلك الوقت وزيرًا للأوقاف، فى الحكومة المصرية، بعد أن ذاع صيته من خلال برنامج (نور على نور)، الذى كان يقدمه الإعلامى الراحل (أحمد فراج)، وأدهشنى منظر الشيخ بالزى الأوروبى، حيث تعوَّدت أن أراه بالزى الأزهرى المعتاد، منذ أن بدأت مشاهدته على (التلفاز) أو فى الصحف، وعندما عدت إلى مصر بعد حصولى على الدكتوراه عملت فى سفارتنا بـ(نيودلهى)، وكنت أرى للشيخ مريدين وأتباعًا ومُعجبين من بين مسلمى الهند، والجاليات العربية هناك، فلقد كان يُبهرنا جميعًا بقدرته على استنطاق المعانى من الألفاظ عند تفسيره للقرآن الكريم، فهو صاحب المنهج الفريد فى التفسير اللغوى لكتاب الله، واستجلاء الأفكار، واستنباط ما وراء الجمل القرآنية من معانٍ، ترتبط بأحداث تاريخية، منذ مهد الدعوة إلى صدر الإسلام، ولقد راعنى كثيرًا وأدهشنى أن يمتد الإعجاب به إلى شخصيات تبدو بعيدةً عن مجاله، فلقد دعانى صديقى د.زاهى حواس الأثرى الكبير لزيارة الفنان الراحل عمر الشريف، منذ عشر سنوات تقريبًا، لمشاركته الاحتفال بعيد ميلاده الخامس والسبعين، وأدهشنا الفنان العالمى بقوله إنه مبهورٌ بالشيخ الشعراوى، ومُتعلق بأحاديثه، وبدأ يقلد لنا بعضًا منها، وأضاف أنه يتمنى أن ينتج فيلمًا، يُمثل فيه دور إمام الدُّعاة (محمد متولى الشعراوى)، وآمنت لحظتها أن الشيخ الذى يتحدث من القلب تصل أحاديثه إلى قلوب الناس، مهما اختلفت مشاربهم وأفكارهم، ولقد اقتربت من الإمام أثناء سنوات عملى فى مؤسسة الرئاسة، وعندما خرجت منها صمَّم أن يقيم عشاءً لتكريمى، والاحتفاء بى، واستضاف الحفل وزير الأوقاف الراحل (أحمد عبدالله طعيمة)، فى شقته بـ(الزمالك)، وحضره لفيفٌ من مريدى الشيخ، بعضهم محافظون سابقون، ووزراء مصريون وعرب، وأطرانى الشيخ بكلمات طيبة، وأجلسنى طوال الحفل إلى جانبه، وكان يقدِّم لى الطعام بيده، فى كرم زائد، ومودة واضحة، وبعد ذلك بسنوات كنت أستقبل ضيفًا رسميًّا فى قاعة كبار الزوار بمطار القاهرة، وسمعت جلبة وضوضاءً عند المدخل، فإذا الشيخ الشعراوى غاضبٌ لأنهم لم يسمحوا بدخول القاعة إلا لخمسةٍ فقط من مودِّعيه، وكان فى طريقه إلى المملكة العربية السعودية، وجاء فى وداعه كالمعتاد جمعٌ غفيرٌ من مريديه وتلاميذه، وقال الشيخ يومها: إن هذه القاعة ليست لنا، إنها للمحاسيب، وإلا لماذا يفعلون ذلك معى؟! وحاول مدير القاعة أن يشرح للشيخ أن الخطاب الوارد بفتح القاعة لا يسمح بمودعين أكثر من اثنين أو ثلاثة، وأنهم أدخلوا خمسةً، إكرامًا له، ولو كان طلب أكثر من ذلك منذ البداية لجرى ترتيب الأمر، حسبما يريد، وعندئذ ذهبت إلى الشيخ فى مقعده فانشرح حين رآنى وقبلته، وقلت له: يستحيل أن يتعمد أحد النيل من مقامك الرفيع، عندئذ حضر إليه اللواء عبدالعزيز بدر، مدير المطار، وكان طيّارًا حربيًّا سابقًا، وحاول استرضاء الشيخ، وعندما قلت لإمام الدعاة إن اللواء عبدالعزيز بدر متزوج من ابنة سفير (الأفغان) الرَّاحل صادق مجددى، والتى تنتمى إلى بيت إسلامى عريق فى (أوساط آسيا)، هدأ الشيخ كثيرًا، واستعاد روح الدعابة، وقضينا معه بعض الوقت، قبل أن يتجه إلى طائرته.. تلك خواطر ألحَّت علىَّ وأنا أتخيل إمام الدعاة مُرتديًا الزِّى الإفرنجى، وهو يبدو وسيمًا، فالأناقة ترتبط غالبًا بالنحافة.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 215
تاريخ النشر: 1 مارس 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%8a%d8%ae-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%b9%d8%b1%d8%a7%d9%88%d9%89-%d9%85%d8%b1%d8%aa%d8%af%d9%8a%d9%8b%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%af%d9%84%d8%a9-%d9%81%d9%89-%d9%84%d9%86/