إن من يتأمل أوضاع الوطن المصري قبل ثورة يناير2011 وبعدها سوف يكتشف أننا لا نزال ندور في الحلقة المفرغة نفسها عند مواجهتنا للمشكلات المزمنة في حياتنا، بدءا من قضايا التعليم والصحة ومسائل الإسكان والمرور، وما يتصل بها من تراجع للخدمات وضعف في الإنتاجية وما يتبع ذلك أيضا من تدهور في السلوك العام.
لقد آن الأوان لأن يتعامل المصريون مع مشكلاتهم المزمنة بأسلوب عصري يقوم بتوظيف الوسائل الحديثة للدراسة والبحث والتنقيب في جوانب المعاناة التي تشهدها حياتنا المعاصرة، ولا بد من تشكيل رؤية متكاملة تقتحم المشكلة ولا تكتفي بالدوران حولها، ولنا في ذلك الشأن عدد من المحاور نسوقها فيما يلي:
أولا: إن الذي يميز أسلوبا في التحليل عن غيره ويرفع مكانة العقل الذي يقف وراءه هو اتباع المنهج الصحيح من بين مناهج البحث المتاحة، إذ إن جدولة الذهن واعتناق مفهوم الرؤية الشاملة والاستغراق في فهم فقه الأولويات هذه كلها عناصر تسهم بشكل فعال في كيفية اقتحام المشكلة المزمنة بمنطق علمي سليم وأسلوب عصري شامل، لذلك فإن الفارق بين تناول العلم لمشكلة معينة، وبين تناول الخرافة لها هو بون شاسع يفصل بين المعرفة واللامعرفة.
ثانيا: إننا لا نبدأ من فراغ، فعندما نتناول مشكلة ما فإننا نتجه إلي السوابق لها جغرافيا وتاريخيا، أي من حيث المكان والزمان لملاحظة الأوضاع النظيرة محليا وخبرات الدول الأخري عالميا، وبذلك يستقيم لنا تصور متكامل لأبعاد المشكلة المزمنة وكيفية التعامل معها، فليس المطلوب أبدا أن نسقط من حسابنا تجارب الأمم وخبرات الشعوب، فالتواصل الإنساني مستمر والحراك الفكري لا يتوقف وما من مشكلة نواجهها إلا ولها سوابق بأبعاد مختلفة وذلك هو( دهاء التاريخ) علي حد تعبير الفيلسوف الراحل الدكتور فؤاد زكريا.
ثالثا: إننا لا يمكن أن نتعامل مع مشكلة ما في إطار مطلق، بل لابد من الانتساب لحدود زمنية واضحة بدلا من الاسترسال دون ضوابط، وذلك حتي نتحكم في المسافة الزمنية التي يتحقق فيها الهدف لذلك، فإن الأمر يحتاج إلي استيعاب الإمكانات المادية المطلوبة، كما يتمثل الجانب المتصل بالبرامج المطلوبة تحت تعبير شامل هو الخطة، بينما يتمثل جانب الموارد المتاحة فيما نطلق عليه الموازنة، ولذلك فإن حشد الموارد يرتبط بتوظيفها الأمثل عند محاولة اقتحام مشكلة مزمنة.
رابعا: إن الحل غير التقليدي يعني بالضرورة الخروج من الصندوق المغلق والتعامل مع المشكلة بأفق واسع ونظرة رحبة تقبل التغيير وتؤمن بالإصلاح وتري أن الجديد أنفع ـ في مواجهة المشكلة ـ من تلك الحلول الروتينية التي تقوم علي نظرية التسكين بل، تتجاوز ذلك إلي حد إنكار وجود المشكلة ذاتها، ولو أن كلا منا أمعن النظر في أسلوب حل المشكلات المطروحة لاكتشف أن العجز الحقيقي يكمن في الإحجام عن المغامرة والابتعاد عن المسالك الواضحة في مواجهة البلادة والغوغائية ونقص المعلومات.
خامسا: إن مفهوم الإصلاح يختلف من عصر إلي عصر ومن نظام سياسي إلي غيره، وذلك يستدعي مسحا شاملا للمشكلات وتصنيفها في تجاوز محدود بحيث ينتهي الأمر إلي ظهور مجموعات متجانسة بينها حد أدني من المشترك السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، بحيث يمكن التعامل مع المشكلة مجتمعيا وتعميم الحلول أحيانا وفقا للعناصر المشتركة بينها.
سادسا: إن الذي يتطلع لتحقيق برنامج النهضة يجب أن يضع في حسبانه أن الأمور تبدأ بالرؤية الشاملة والنظرة المتكاملة، وليتذكر الجميع التجربة الهندية الرائدة عندما استطاع جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند في مطلع خمسينيات القرن الماضي أن يقيم مركزا قوميا دائما للتخطيط يقوم علي المركزية في وضع السياسات وعلي اللامركزية في تطبيقها، ثم استمر الهنود علي هذا النهج لم يتركوه حتي يومنا هذا، حتي أصبحت الهند واحدة من الدول الصناعية العشر الكبري ودولة فضاء ودولة نووية ودولة اكتفاء ذاتي في الحبوب الغذائية لما يقرب من مليار ومائتي مليون نسمة!
سابعا: إن علم الإدارة يجب أن يتصدر اهتماماتنا، لذلك فإنه لم يعد غريبا أن نجد المتخصصين في جميع المجالات العلمية والتطبيقية يتوجون دراساتهم العليا بتخصص مستمر في علم الإدارة وفلسفته، فالفارق بين منزل وآخر أو مكتب عمل ونظيره هو أسلوب الإدارة ومنهجها ولايزال الصديق خبير الإدارة الدكتور صبري الشبراوي يلفت النظر إلي هذه المسألة في كل مناسبة.
ثامنا: إن الأمر يتطلب قبل كل شيء تشكيل الرؤية المتكاملة التي تصوغ المستقبل وتحدد ملامحه وترسم الإطار لحل المشكلة علي المدي القصير والمدي الطويل والأمر يتطلب في هذه الحالة وفقا لخيال واسع يضع أمامه تصورا دقيقا للهدف ووسائل الوصول إليه، فالمسألة ليست ارتجالا بقدر ما هي عقل يفكر ومنطق يطبق ورؤية تدوم.
تاسعا: إن التوجه المعاصر لمواجهة المشكلات يقوم علي حسابات تستفيد من الأشواط التي قطعها علم تكنولوجيا المعلومات في العصر الإلكتروني، وهنا أطالب بشدة باقتصار دورها علي جمع قاعدة البيانات دون اتخاذ القرار، فالعقل الإنساني لايزال هو أرقي أجهزة التعامل مع المشكلات الحادة والقضايا الحيوية، فالمضي وراء التقدم التكنولوجي يجب أن يكون محسوبا هو الآخر.
عاشرا: إن الإيمان بالتخصص واحد من لزوميات العصر وأدواته المهمة، فإذا كنا نؤمن بنظرية وحدة المعرفة ونتحمس لها فإننا نعترف في الوقت ذاته بأن الطرق المختلفة قد تؤدي إلي الحل الواحد، وليس صحيحا أنه توجد صيغة واحدة لحل مشكلات الشعوب، وهذه نقطة مهمة لأنها تعني أن الذين يتعاملون مع مسألة معينة يجب أن يكونوا من مجموعة متعددة من التخصصات المرتبطة بطبيعة المشكلة إذ لا يوجد حل واحد، بل إن الأمر قد يؤدي إلي التعددية والاتساع علي نحو لم يكن معروفا في الأزمنة الماضية.
.. هذه محاولة لفتح ملف مهم في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الوطن ولابد من الوعي الكامل بأبعادها حتي يتحقق للوطن المصري في هذه المرحلة الخروج من أزماته المتكررة ومواجهة مشكلاته المتعددة وصياغة رؤاه الشاملة.
جريدة الاهرام
6 أغسطس 2012
http://www.ahram.org.eg/Archive/983/2012/8/6/4/164428.aspx