عندما سقط نظام الرئيس السابق مبارك تيقن كل المعنيين بالسياسة الخارجية المصرية أنها سوف تشهد تحولا كبيرا علي المستويين الإقليمي والدولي.
ولعل البعض يتذكر أنني كنت أشير علنا في كل المناسبات السياسية والدبلوماسية والإعلامية في العصر السابق إلي أن الدور الإقليمي لمصر يتراجع، حتي أن صحيفة البديل التي كان يترأس تحريرها الراحل د.محمد السيد سعيد قد أخذت تصريحا لي عنوانا لها قلت فيه( إن الرئيس مبارك لا يهتم بالدور الإقليمي لمصر) وبعدها بساعات انهالت علي مكالمات تحمل نذر التهديد والوعيد من كبار مسئولي الرئاسة تعبيرا عن غضب الرئيس السابق وكان الذي لفت نظري إلي ما جاء في الصحيفة هو الصديق الدبلوماسي المتميز نبيل فهمي سفير مصر الأسبق في واشنطن، أقول ذلك كله بمناسبة التطورات الأخيرة في السياسة الخارجية المصرية بعد ثورة يناير 2011، ودون لجاجة أو استرسال فإنني ألفت النظر إلي الملاحظات التالية:
أولا: إن نظرية الدور الإقليمي تتجسد بما لها وما عليها- في سياسة مصر الخارجية عبر العصور حيث مارست الدولة المصرية دورا حيويا له امتداده في مجالها الجغرافي ووفقا لمعطيات تاريخية جعلت المكان والزمان يحددان دورا رياديا لبلد مركزي ومحوري في عالمه العربي وموقعه الافريقي وشخصيته البحر متوسطية واشتباكاته الشرق الأوسطية، ولعل الامتداد التوسعي لمحمد علي والانتشار القومي لجمال عبد الناصر هما أقوي تعبيرا عن طبيعة الدور المصري وآثاره في المنطقة، ونلفت النظر إلي أن أعداء نظرية الدور يقيمون رأيهم بحساب التكاليف التي تتحملها الدولة في الزمن القصير دون النظر لعوائده علي المدي الطويل.
ثانيا:- لقد توصل خبراء السياسة الخارجية المصرية إلي معادلة ثابتة مؤداها أن مصر تبيع سياسة وتشتري اقتصادا لأنها توظف الدور الإقليمي والوزن الدولي في خدمة قضايا الداخل ومشكلاته لبلد يعاني انفجارا سكانيا لا يتوقف، وإدارة مترهلة في دولة عجوز لم تتمكن حتي الآن من كسر حاجز الفقر والقفز نحو المستقبل الواعد، فعندما يذهب رئيس مصر دون تحديد في رحلات خارجية فإنه يقوم باستثمار الدور المصري وأبعاده المتداخلة في خدمة مطالب شعبه وأهدافه الآنية علي اعتبار أن السياسة الخارجية هي امتداد طبيعي للسياسة الداخلية.
ثالثا:- إن الصراع العربي ـ الإسرائيلي قد فرض علي الدولة المصرية توجهات محددة ذات تكاليف باهظة وضعت علي صانع السياسة الخارجية قيودا في زمن الحرب والسلام معا، حيث مثلت المشكلة الفلسطينية هاجسا دائما لمصر علي امتداد العقود السبعة الأخيرة وحددت بدرجة كبيرة توجهات السياسة المصرية إقليميا ودوليا بل إننا نزعم أن علاقات القاهرة واشنطن عرفت في العقود الأخيرة أيضا طرفا ثالثا يلعب بين طرفي المعادلة هو الدولة العبرية بسياساتها العدوانية التوسعية الاستفزازية، واضعين في الاعتبار أن الولايات المتحدة الأمريكية تلخص مصالحها في الشرق الأوسط من خلال هدفين أساسيين هما حماية منابع النفط وضمان أمن اسرائيل.
رابعا:- إن مصر عبر تاريخها الطويل تنظر شرقا نحو غرب آسيا وتتجاوز ذلك إلي القوي الآسيوية الكبري خصوصا في الهند والصين واليابان، ويشعر المصريون أحيانا بانتمائهم الشرقي عندما يكتشفون أن التحديث لا يعني بالضرورة التغريب دائما Modernization is not always westernization فالتجارب الآسيوية الكبري حافلة بالخبرات التي يمكن أن تستفاد منها مصر بحكم التشابه في بعض الخصائص مع ذات التحديات التي فرضتها ظروف متشابهة.
خامسا:- إن أغلي سلعة صدرتها مصر عبر القرنين التاسع عشر والعشرين كانت هي السلعة الثقافية صحيفة وكتابا وقصيدة ومسرحية وفيلما، حتي أصبح المزاج المصري مقبولا عربيا ومقدرا إسلاميا ومطروحا إفريقيا حتي تحدد الدور المصري بأطروحات عصرية مثل التحرير والتنوير وتصدير التعليم، فكان المدرس المصري إلي جانب زميله الطبيب ورفيقه المهندس هم سفراء الدولة الحقيقيين إلي شعوب المنطقة، يحملون الشعلة ويشاركون في البناء، وحتي دعم مصر للثورة اليمنية عسكريا عند اندلاعها عام 1962 كان نموذجا قوميا مكررا من حملة بونابرت الفرنسية علي مصر في مطلع القرن التاسع عشر، فالتاريخ مغرم بالمحاكاة ولا يمل التكرار!
سادسا:- إن الأبعاد الإقليمية للسياسة الخارجية المصرية لابد أن تضع في اعتبارها دول الجوار الجغرافي، خصوصا تركيا وإيران ودول القرن الإفريقي الرابضة علي مداخل البحر الأحمر خصوصا أن الأخيرة لا تبعد كثيرا عن حسابات جديدة تدور حول ملف مياه النيل أكثر الملفات حيوية وإثارة أمام السياسة الخارجية المصرية، ومصر لا تبتعد عن القوي الإقليمية بما فيها إسرائيل ذاتها لأن العلاقات الدبلوماسية القائمة حتي وإن لم تكن طبيعية تماما لا تعني الرضا الكامل أو العشق السياسي، ولكنها تعبير عن شبكة المصالح المتفقة أو المتضاربة، فالعلاقات الدولية لا تعرف الحب والكراهية، ولكنها تعرف الهيبة والاحترام المتبادلين!
سابعا: إن السياسة الخارجية المصرية حاليا أشد ما تكون حاجة للخروج من شرنقة الماضي إلي توجهات غير تقليدية يستيقظ معها الدور المصري وتتحرك بها القوي الناعمة للدولة العميقة والعريقة، حيث كانت دائما هي أداتها في التحرك والانتشار عربيا وإفريقيا وإسلاميا، إن مصر بحاجة إلي توظيف كل أبعاد هويتها الثرية من أجل استعادة هيبة دورها وتشابك اهتماماتها في ظل رؤية شاملة ونظرة متجددة تضع مصر من جديد علي خريطة ملاحظات مبدئية حول السياسة الخارجية.
الاهتمام الدولي والإقليمي.. إنها ملاحظات مبدئية حول السياسة الخارجية المصرية، ولكن للحديث بقية!
جريدة الاهرام
1 أكتوبر 2012
http://www.ahram.org.eg/Archive/1039/2012/10/1/10/174508.aspx