تروي كتب الطرائف التاريخية أن والي مصر عباس الأول خرج ذات يوم مع بعض حاشيته في رحلة قصيرة إلي الصحراء ووصل إلي نقطة وجد فيها بعض الأعراب من بدو الصحراء يتحلقون حول لعبة للتسلية في الرمال هي أقرب إلي ما نطلق عليه الآن لعبة السيجة وهي( شطرنج الفقراء).
فقال لهم أحد رجال الحاشية هذا هو أفندينا عباس الأول فلم يحركوا ساكنا وواصلوا اللعب وقال أحدهم بغير اكتراث كيف حالك يا عباس؟ وأدرك الوالي لحظتها أنهم لا يعرفون قيمته ولا مكانته ويتصرفون بشجاعة تلقائية هي تلك التي نطلق عليها شجاعة الجاهل ويومها قرر الوالي أن هؤلاء لا يخدمون في جيش أفندينا فهم لا يستحقون ذلك الشرف، ولقد ظل البدو لعدة عقود إحدي الفئات التي ينطبق عليها الاستثناء من الخدمة العسكرية في الجيش المصري مثل حفظة القرآن الكريم ودافعي البدلية( وهي جعل مالي يدفع لخزينة الدولة للإعفاء من الخدمة العسكرية حينذاك) بالإضافة إلي أبناء العمد والمشايخ، أقول ذلك لكي أبرهن علي أن من لا يعرف قد يتصرف بشجاعة تحسب له بينما هي محسوبة علي جهله ونقص معرفته فهو كالطفل الصغير الذي يضع إصبعه في النار ولا يدرك خطورتها إلا عندما تلسعه! ولقد كان الكاتب الراحل كامل زهيري نقيب الصحفيين الأسبق يقول إن هناك نوعين من الصحفيين نوع قوي في الكتابة ونوع آخر قوي علي الكتابة قاصدا بالنوع الأخير ذلك النمط من الكتاب الذين يكتبون كلاما غثا ويستطردون في نفاق الحاكم مع الاستقواء به علي سطور مطبوعة بلا مضمون! فأولئك هم الذين يقهرون الكلمة وهم لا يجيدون حرفة الكتابة ولكن يتصدون لها في شجاعة الجاهل، أقول ذلك كله لكي أدلل علي ظاهرة غريبة وفدت علي حياتنا في السنوات الأخيرة وأعني بها ما أراه في المشهد السياسي من محاولة اقتحامه من بعض الشخصيات لاستعراض العضلات وإطلاق التصريحات والحديث بلا وعي أو خبرة! بل إنني أحيانا أشعر بدهشة تصل إلي حد الذهول عندما أستمع إلي عنتريات غير مدروسة وأفكار غير مهضومة مع إقدام شديد للبحث عن دور في ظروف غير طبيعية لمن افتقدوه في الظروف الطبيعية! ولعلي أطرح هنا الملاحظات التالية: أولا: إن الشعب المصري تركيبة إنسانية ذات خصوصية لأن الموقع الجغرافي والسياق التاريخي جعلا من الكنانة نقطة التقاء بين ثقافات وهجرات، وملتقي أفكار وحضارات، ولا يمكن اختزال ذلك كله من خلال عملية تسطيح لا تدرك أبعاد هذا الوطن أو أعماقه، فمصر أكبر وأعرق وأخطر من معظم بلدان الدنيا لأنها بلد سهل في ظاهره هادئ في مجمله ولكنه شعب بركاني في باطنه ثائر في جوهره والذين لا يدركون ذلك لم يقرأوا التاريخ ولم يلتمسوا دروسه ولم يفهموا الشخصية المصرية التي تقبل في ظاهرها ما قد ترفضه في داخلها.
ثانيا: إن العمل السياسي ليس حرفة فراغ ولا مهنة نهاية الخدمة إنه استعداد وتدريب وخبرة، لقد رأيتهم هناك في بريطانيا ذات صباح عام1975 يأخذون مارجريت تاتشر وزيرة التعليم من مقعدها إلي المنصة ليعلنوا رئاستها لحزب المحافظين في مؤتمرهم حينذاك بمدينة بلاكبول لكي تصبح بعد ذلك رئيسة الوزراء ربما لأطول فترة في تاريخهم الحديث، ولتدخل بعد ذلك في سجل الخالدين لكي تنافس السياسي البريطاني الراحل الداهية ونستون تشرشل في الأهمية من خلال استطلاعات الرأي العام علي نحو يؤكد أن تصعيد تاتشر بطلة استعادة جزر الفوكلاند بالبحرية البريطانية علي بعد آلاف الأميال عند سواحل الأرجنتين تأكيدا لإرادتها القوية وقرارها الحاسم فلقد كانت بحق هي المرأة الحديدية.. أسوق ذلك لكي يدرك الجميع أن التصعيد السياسي ليس انتهازية شخصية ولا مواقف استعراضية ولا حركات مسرحية إنه دراسة ميدانية وخبرة شخصية مع استعداد فطري للقيادة الشعبية، فأين نحن الآن من كل ذلك؟!
ثالثا: إنني أقول جازما إن المسرح السياسي المصري الذي ينقسم أبطاله في المشهد الواحد لا يعبر بدقة عن الشارع المصري، وأنا أتحدي أي فصيل سياسي موجود أن يتمكن من إيقاف حركة العنف في لحظة معينة لأن الحلقة مفقودة بين صيحات المؤتمرات الصحفية وحركة الشارع من مظاهرات واعتصامات وإضرابات لا تخلو في معظمها من عنف لا مبرر له، إن الثورة المصرية تعرضت لحالة من الانفصال الشبكي أو الشيزوفرينيا الشخصية فاتسمت بحالة من الازدواج الذي عانت منه ثورات كثيرة عبر التاريخ، فالذي زرع ليس هو من حصد! كما أن من قاموا بها لم يعودوا أصحابها! فتوزعت الدماء بين القبائل كما قالت العرب، وتبعثرت الآمال وغابت الأهداف واختفت الرؤية وسط ضجيج الأصوات العالية والشعارات الزاعقة والعبارات الرنانة والأفكار غير المدروسة.
رابعا: إن انقسام الشارع المصري بين تيارات الإسلام السياسي وقوي الدولة المدنية هو انقسام سياسي في ظاهره ولكنه قد يكون انقساما طبقيا في مضمونه، كما أن المعسكرين منقسمان داخليا أيضا فالتيار الإسلامي الذي يحكم لا يقدم خريطة طريق واضحة، كما أن جبهة الإنقاذ هي أقرب إلي حالة الاصطفاف الشكلي منها إلي مفهوم النضال السياسي، وأنا أري أن المشهد السياسي يبدو عبثيا في كثير من المناسبات، فالتراشق بالكلمات لا بالأفكار، والصراع بين أشخاص لا بين سياسات، فالليبراليون يسعون إلي إزاحة جماعة الإخوان المسلمين عن الحكم الذي وصلوا إليه بصندوق الانتخابات، وفي نفس الوقت فإن أولئك الليبراليين لا يصلون إلي القري والكفور والنجوع ويكتفون بالمؤتمرات الصحفية ومخاطبة الشرائح العليا من المجتمع دون الوصول إلي الفقراء فأولئك هم المعذبون في الأرض!
خامسا: إنني لا أكون واهما إذا قلت إن التقاء القوي السياسية من كل الأطياف علي خلفية الوطنية المصرية الخالدة يمكن أن يحل جزءا كبيرا من المعضلة وأن يدفع بالمشهد السياسي إلي العمل الجاد بدلا من القول الفارغ وأن يدعو كل فصيل لكي يقدم أفضل ما لديه خدمة لوطن كبير وشعب عرف المعاناة وذاق المرارة عبر العصور، إنني أقول ذلك وعيني علي شعبية ثورة1919 وحزم ثورة1952 وبالمناسبة فإنني لا أفترض في أي منهما الكمال، ولكن وحدة الشعب المصري وتجانسه كانت أمرا لا يختلف عليه أحد، وبالمناسبة أيضا فإنني ألمح أحيانا بعض الإيجابيات فقرار الرئيس الدكتور مرسي ـ علي سبيل المثال ـ بتعديل موعد الانتخابات النيابية احتراما لأعياد الأشقاء الأقباط هو في ظني أول رسالة إيجابية ألمحها في الشهور الأخيرة.
.. حمي الله الكنانة وشعبها الطيب
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46110
تاريخ النشر: 5 مارس 2013
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/134861.aspx