عبارة قيلت في القرن التاسع عشر مازالت أصداؤها ماثلة حتي الآن، فإذا كانت مصر هي الأهرام و أبو الهول، وهي الحضارات والثقافات والتنوير في المنطقة.
فهي أيضا دولة المجري الملاحي الدولي الذي يربط الشرق بالغرب والذي قدم فيه الفلاح المصري أكثر من021 ألف شهيد في الصحراء المكشوفة وتحت لهيب الشمس الحارقة.
لذلك فإنه من الطبيعي أن نشعر بانزعاج عندما نري المؤامرات تحاك حولها والأطماع تتطلع إليها ومحاولات إنهاء قيمتها الاستراتيجية تلوح في الأفق، ولقد قرأنا مؤخرا عن بالونات اختبار مطروحة لقنوات بديلة تسلب مصر واحدة من أهم إنجازات القرن التاسع عشر ـ قرن النهضة والدولة المصرية الحديثةـ إنها قناة السويس التي تمثل علامة جغرافية وتاريخية للدولة المصرية الحديثة، ولقد تواترت الكتابات والدراسات والأحاديث في الفترة الأخيرة حول القناة ومستقبلها، فهناك من يحاول إيجاد البدائل عنها، وهناك من يطمع في السيطرة عليها، ولكنها في النهاية كيان دولي كبير يصعب المساس به أو الانتقاص من قدره، لأنها شريان حيوي يخدم التجارة الدولية والنقل البحري قبل أن يضخ موارده في الحياة المصرية، ولنا الآن عدة ملاحظات:
أولا: كنت قد قرأت مقالا للأستاذ محمد السمنودي رئيس الجالية المصرية في اليونان ـ منذ عام تقريبا وتحديدا في الخامس عشر من مارس2012 ـ يتحدث فيه عن أطماع إسرائيل في قناة السويس وكيف أنها قد درست في الماضي مشروع إنشاء قناة بحرية بديلة عبر صحراء النقب، وأثبتت الدراسات استحالة تنفيذه لطول المسافة ولوجود عوائق في التضاريس والجيولوجيا تحول دون ذلك، ولكنها طلعت علي العالم بمشروع جديد لقناة بديلة تبدأ من موقع جديد يقع شمال مدينة إيلات بحوالي57 كيلو متر، وإن كانت الجدوي الاقتصادية للمشروع الجديد لا تبدو مرضية ملاحيا بل وغير مجزية اقتصاديا، ولقد قرأت لخبير بحري مصري هو اللواء محفوظ طه حديثا صحفيا قال فيه إن قناة السويس ستغلق خلال سبع سنوات وأوضح في حواره أن ترتيب الخريطة الدولية للنقل البحري وحركة التجارة الدولية يشيران إلي أن دور القناة يتضاءل، وأن هناك مخططا عالميا للاستغناء عن ذلك الممر الملاحي العالمي، وقد أضاف اللواء طه ـ الذي كان مستشارا لوزير النقل المصري لشئون النقل البحري ورئيسا لهيئة موانئ البحر الأحمر ـ أن هناك أربعة مشروعات عالمية يجري تنفيذها حاليا باستثمارات مبدئية تصل إلي04 مليار دولار، وبذلك تتأثر حصة قناة السويس من عبور السفن والتي قال إنها سوف تتناقص بشكل مستمر خلال السنوات المقبلة، بل وحذر الخبير الملاحي المصري من أن التصورات المستقبلية التي يبشر بها البعض حول قناة السويس إنما تجري باستخدام إحصائيات قديمة، وأضاف في حديثه الخطير إلي مشروعات السكك الحديدية التي من المنتظر أن تتم خلال سنوات قليلة لتربط بين شانغهاي في الصين والمدن الأوروبية المختلفة.
ثانيا: لا يخالجني شك ـ أنا وغيري من المصريين بل والعرب وغيرهم ـ من أن الكيان المصري مستهدف حاليا كما لم يحدث من قبل، فالدولة المصرية العريقة محاطة حاليا بالأطماع من كل جانب سواء من الداخل أو الخارج، وسواء كان ذلك عربيا أو دوليا. ولا يخفي علي أحد أن الدولة العبرية تنظر إلي الخريطة العربية الممزقة حاليا في ارتياح وسعادة بل ونشوة! فالمخطط يمضي كما أرادته، والفوضي الخلاقة تصنع عالما عربيا جديدا يعاني الفرقة والتجزئة ويخضع لمحاولات التقسيم وزرع الفتنة وتكريس التخلف، وليس الأمر بالنسبة لقناة السويس بعيدا عن ذلك فهي مرفق حيوي تتميز به مصر وتضيفه إلي علاماتها التاريخية والجغرافية التي تشد الأنظار وتخطف الأبصار، كما أن ما جري في السنوات الأخيرة يوحي بأننا أمام تغيرات كبيرة وسياسات جديدة ومؤامرات محكمة.
ثالثا: إن ديليسبس عندما أوهم أحمد عرابي ـ الفلاح الطيب ـ بأنه سوف يردم القناة ليمنع غزو البلاد منها إنما كان يلقن أحفاده فيما بعد كيفية التعامل مع ذلك الشعب المصري الصبور الذي يصدق الآخرين ثم تأتيه اللدغات بعد ذلك رغم وعيه بها وحرصه علي تجنبها، وها هي مصر الحالية تواجه ظروفا غاية في الصعوبة والتعقيد، ولكن الأمل يبقي في عمقها التاريخي وبعدها البشري وحجمها السكاني وتنوعها الجغرافي!
رابعا: إن قناة السويس التي مضي علي حفرها قرابة قرن ونصف قرن لا يمكن أن تبقي مجري ملاحيا مجردا بل يجب أن تتحول ضفتاها إلي مناطق حرة ومراكز استثمار عالمي يمكن أن تكون هي البقعة المضيئة اقتصاديا في الشرق الأوسط كله، ولقد دعانا الأستاذ الدكتور حسام بدراوي منذ سنوات قليلة لمحاضرة قيمة حول هذا الموضوع إذ لا يعقل أن يظل ذلك المرفق العالمي ممرا مائيا فقط، بل لابد أن يفيض علي مصر بكل عوامل التقدم وأسباب الرخاء، والأمر بيدنا لا نتركه لغيرنا ولا نسمح له أن يؤديه عنا فنحن بلد الخبرات والكفاءات والقدرات البشرية المتميزة.
خامسا: إن ما روجت له بعض المصادر الإعلامية بعد ثورة25 يناير2011 من رغبة دولة أو بعض الدول في استثمار منطقة القناة ـ حتي ولو كان ذلك بالشراكة معنا ـ هو أمر يستحق المراجعة ويتطلب الحذر لأن السيادة الوطنية علي الأرض والفضاء والمياه تسبق غيرها من أسباب الثروة ومصادر الرخاء، وبالمناسبة فنحن لا نرفض التعاون الدولي والإقليمي وخصوصا العربي ولكننا نتحفظ علي الأفكار غير الواضحة والأطماع المشبوهة والمبادرات المستوردة، فالسيادة الوطنية هي معيار المصلحة العليا لأي دولة مهما كانت ظروفها الاقتصادية وأوضاعها الاجتماعية.
.. هذه قراءة موجزة في ملف كبير نسعي منها إلي التحريض علي التفكير واستفزاز الروح الوطنية في هذا الوقت العصيب الذي تمر به الكنانة حفظها الله.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46138
تاريخ النشر: 2 أبريل 2013
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/202078.aspx