كنت أنتوي أن أكتب منذ عدة أسابيع رسالة تحية لأقباط مصر لأنهم تعاملوا مع الوضع السياسي وتطوراته كمصريين قبل كل شيء، ولكن جاءت أحداث الكاتدرائية بعد ما جري في مدينة الخصوص لتجعلني أزداد رغبة في توجيه تلك الرسالة ولكن بأسلوب مختلف ومفردات جديدة، خصوصا وأنني أظن ـ وليس كل الظن إثما ـ أن الأحداث الأخيرة هي جزء من صراع سياسي قبل أن تكون فتنة طائفية.
ولعلي أشير في هذه المناسبة إلي عدد من الملاحظات المبدئية المتصلة بهذا الموضوع الخطير الذي يمثل المدخل الأكثر توقعا لتمزيق الوطن المصري، ولست أشك لحظة في أن أحداث الكاتدرائية قد مثلت رسالة سلبية علي صعيد السياسة والإعلام وعلي صعيد السياحة والاستثمار، ولقد كنا نتوهم أن أبرز إنجازات الثورة المصرية في يناير2011 سوف تكون هي استعادة الوحدة الوطنية المنيعة، والقضاء علي أسباب الفتن وعوامل الخلاف، ولكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن، ولعلنا نرصد الآن الملاحظات الآتية:
أولا: إن المسلم الحقيقي لا يعتدي علي غيره، فرسول الإسلام اعتبر من آذي ذميا كمن آذي الرسول الكريم ذاته الذي يكون خصيمه يوم القيامة وهو الذي خالط أهل الكتاب وتزوج منهم وعاش معهم في صفاء وسماحة، لذلك فالإسلام الحقيقي هو خارج دائرة الفتنة وآثارها تماما ولا ينبغي أبدا إقحامه فيها أو النيل منه بسببها، خصوصا وأن المسيحيين هم أقرب الناس مودة لأهل الإسلام كما نص علي ذلك الذكر الحكيم ذاته، لذلك فإن الذين يتصورون أنهم يدافعون عن الإسلام في حرب مقدسة ضد المسيحية هم أبعد الناس عن فهم الإسلام الصحيح وأقلهم وعيا بشريعته السمحاء وأكثرهم جرما في حق الدين والوطن معا.
ثانيا: إن أقباط مصر يمثلون الجذور الخالصة لمصر القديمة برغم الهجرات المتعددة والتغييرات المتعاقبة، وقد أوصي بهم رسول الإسلام خيرا لأن للمسلمين فيهم نسبا وصهرا، وأنا أظن مخلصا أن مسيحيي مصر في مجملهم مسالمون ومقبلون علي أشقائهم المسلمين بالمحبة الراسخة والضاربة في جذور التاريخ لأن الأصول العرقية واحدة، فالتاريخ مشترك والتعايش حتمي، ولقد امتزجت دماء مسيحيي مصر بدماء مسلميها في معارك الشرف والتضحية من أجل الأرض الطيبة التي يعيش عليها المصريون جميعا.
ثالثا: إن أساليب التعامل مع الأحداث الطائفية في العقود الأخيرة هي أساليب روتينة عفنة أقرب إلي المسكنات الوقتية منها إلي الحلول الجذرية، لذلك فإننا نريد نمطا مختلفا من المواجهة يعتمد علي التفكير خارج الصندوق واتخاذ إجراءات غير تقليدية لمواجهة مشكلة سرطانية تمثل في ظني الخطر الأكبر علي مستقبل الكنانة ذلك أن من يريد تمزيق الشعب المصري وضرب وحدته لن يكون له طريق أفضل وأسرع من طريق التسلل لتشويه العلاقة بين مسلمي مصر ومسيحييها، ولقد علمنا التاريخ القريب أن غياب الأحكام الرادعة وافتقاد العقوبات الزاجرة هي واحدة من أسباب تكرار تلك الجرائم التي ترفضها الفطرة المصرية بل الطبيعة البشرية أيضا.
رابعا: ليست المشكلة بالكلمات المعسولة وتبادل الزيارات المملة بين رجال الدين أوالحديث السطحي عن مظاهر الوحدة الوطنية فتلك كلها تصرفات عفا عليها الزمن وسئمها البشر، ولم تتمكن حتي الآن من استئصال المشكلة من جذورها، بل ازداد معدل تكرارها وأصبحت خبرا عاديا قد يؤرق الناس، ولكنه لا يدهشهم! لقد نادينا منذ سنوات طويلة بعدد من الإصلاحات للوضع الطائفي في مصر ولقد حاولت شخصيا ـ بحكم التخصص الأكاديمي والممارسة العملية في هذا الميدان لسنوات طويلة ـ أن أبني مع غيري من المسلمين والمسيحيين قاعدة صلبة تحمي وحدة المصريين وتأخذ بيدهم نحو آفاق مستقبل أفضل خصوصا وأن العالم المتقدم قد بدأ يتجاوز الصراعات الدينية والعرقية والطائفية، ولقد حان الوقت مثلا لإصدار قانون ينظم بناء الكنائس بلا عنت أو إبطاء وأن نقوم بتغيير برامج الدراسة ومناهج التعليم خصوصا لدي الأطفال وصغار النشء لتخريج أجيال تدرك أن الدين لله والوطن للجميع وأن مصر تحتوي كل أبنائها دون تفرقة أو استثناء حتي يدرك الكل أن التعايش المشترك هو الأسلوب الأوحد للمستقبل الأفضل.
خامسا: لقد كنا نتهم الجهات الأمنية قبل ثورة يناير2011 بأنها تقف وراء الأحداث الطائفية، ولقد حان الوقت الذي يجب أن تلتزم فيه تلك الجهات بالحياد الصادق والموضوعية الكاملة والوطنية الحقيقية لأننا بلد مستهدف بكل المعايير ولابد أن نستيقظ الآن من تلك الغفوة الطويلة التي عشنا فيها والضبابية التي سيطرت علي طريقة تفكيرنا مع انعدام الرؤية وسيطرة روح التعصب وشيوع مزاج متشدد يغذي التطرف الديني مع ادعاء الوصاية علي المؤمنين واحتكار الإيمان لفئة دون غيرها، بينما الأمر كله يختلف عن ذلك تماما لذلك يجب أن يتوقف الشحن الإعلامي السلبي خصوصا الديني منه لأنه يزرع الفتنة ويؤجج نار العداء دون سبب مفهوم أو دوافع واضحة اللهم إلا إيذاء هذا الوطن والنيل من وحدته وتماسكه.
.. أريد أن أقول علي هامش تلك الأحداث الصادمة التي تعرضت لها الكاتدرائية المرقسية بالعباسية التي وضع حجر أساسها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر في وقت لم يكن هناك فيه تمييز بين مسلم ومسيحي ولا تهميش لقبطي ولا تطرف لسلفي إنني أقول لأشقائنا من دعاة التيار السلفي الذين يقدسون ما جاء في الذكر الحكيم والسنة المؤكدة أقول لهم إن التمسك بفعل السلف الصالح شيء مستحب بل مطلوب شريطة أن يكون تمسكنا بفعلهم الصحيح وسيرتهم العطرة التي تكون دافعا للتسامح ومانعا للتصريحات غير المسئولة أحيانا مع تنقية حقيقية للقلوب من أسباب الكراهية ودوافع العداء، إنني ألمح في الأفق بوادر مقلقة ولن أكون كزرقاء اليمامة فقط ولكن أقول مع لشاعر الجاهلي دريد بن الصمة:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوا..
فلم يستبينوا الرشد إلا ضحي الغد!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46152
تاريخ النشر: 16 أبريل 2013
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/204716.aspx