محصورون نحن في صندوق مغلق، ولقد قالت بعض الكتابات الأجنبية أن مصر كالفيل الضخم الحبيس في حجرة ضيقة، ونحن نهدف من السطور القادمة أن نؤكد أننا بحاجة إلي رؤي جديدة وأفكار غير تقليدية للخروج من المأزق المقيت الذي حشرنا أنفسنا فيه فأصبحنا بالفعل أسري لأفكار عفا عليها الزمن وتصرفات روتينية وتصورات عاجزة تعكس فقر الخيال وعدم القدرة علي تحديد ملامح الدولة العصرية الحديثة التي يجب أن نتجه نحوها.
وقد يقول قائل إن التفكير النمطي هو ميراث مصري لبلد عريق يتمسك بالتقاليد ويصنع الأعراف ويعشق النبش في الماضي ويكون الرد الفوري إن الدنيا قد تغيرت تماما والعالم يتطور بسرعة مذهلة، كما أن مصر ذاتها قد دخلت غرفة العمليات الجراحية وتحتاج إلي علاج أمراضها وبتر فسادها وإنعاش دورها ولن يتحقق ذلك بالتأكيد في ظل الأوضاع السياسية الحالية، حيث الصراع المحتدم علي السلطة مع الرغبة الدفينة في الاستحواذ واتباع أساليب العزل والإقصاء مع التعميم المخل الذي يطيح بالكفاءات ويعصف بالخبرات في بلد يبدو أشد ما يكون حاجة إلي عقول كل أبنائه وقدرات جميع مواطنيه، وهنا يتعين علينا أن نطرح الملاحظات التالية:
أولا: يتحدث الكثيرون عن النموذج التركي وبريقه خصوصا مع وصول التيار الإسلامي إلي الحكم في مصر وقد توهمنا ـ خطأ أو صوابا ـ أن وجود حزب العدالة والتنمية في السلطة بالدولة التركية هو كفيل بإعطاء المقارنة مشروعيتها بالتوازي مع حزب الحرية والعدالة في مصر وواقع الأمر مختلف إلي حد كبير فالمزاج التركي أوروبي النزعة مختلف النظرة، والإسلام هناك مخزون حضاري أكثر منه نموذجا سياسيا، وأنا ممن يعتقدون أن تطبيق هذا النمط التركي شيء رائع ولكني أظنه صعب التحقيق فالمزاج المصري مختلف والدين متجذر لدينا علي نحو غير مألوف في العالم المعاصر، لذلك فإنني أستبعد فكريا ذلك النموذج الأناضولي وأتجه إلي ما أراه أقرب للنموذج المصري وأعني به التجربة الهندية التي عايشتها شخصيا لأربع سنوات وأظنها شديدة القرب من الواقع المصري، فالتشابه بين الشعبين كبير مع تقارب في مستوي المعيشة، وتماثل في الضغوط اليومية إلي جانب مخزون ثقافي ضخم وركام هائل من التقاليد الموروثة والقيم العتيقة، فضلا عن أن الهندوسية ـ الديانة السائدة في الهند ـــ تمثل ما يقارب نسبة المسلمين في مصر بينما تقترب نسبة المسلمين هناك من نسبة الأقباط لدينا، وأنا لا أخفي صراحة إعجابي بالتجربة الهندية لدولة هي أكبر ديمقراطيات العالم والتي استطاعت أن تقفز في العقود الأخيرة لتصبح دولة اكتفاء ذاتي من الحبوب الغذائية ودولة فضاء بل ودولة نووية أيضا وواحدة من الدول العشر الصناعية الكبري بل وزادت علي ذلك أن وضعت علي قمتها عددا من الرؤساء المسلمين.
أذكر منهم ذاكر حسين وفخر الدين علي أحمد ومولانا عبد الكلام ونائب رئيس الجمهورية محمد هدايت وقائد الطيران الجنرال لطيف بل قد يدهش البعض حين يعلم أن رئيس الحكومة يوجه كلمة إلي الشعب الهندي في المولد النبوي الشريف مجاملة للأقلية المسلمة رغم العداء مع الجارة باكستان التي قسم ميلادها شبه القارة الهندية لأسباب دينية، ولقد كنت أحلم ومازلت ـ وليس كل الحلم ـ وهما بنظام برلماني في مصر علي النسق الهندي يصبح فيه رئيس الدولة هو الأول في البروتوكول ولكن رئيس الحكومة هو الأول سياسيا، إن هذا النظام يؤدي إلي التوازن السياسي الحقيقي ويضع علي قمة الدولة رئيسا يملك شكليا ولا يحكم فعليا وعلي رأس الحكومة خبير متميز لا يملك ولكنه يحكم، ونحن نلاحظ أن نظم الحكم البرلماني في العالم كله هي أكثر استقرارا من النظم الرئاسية وأكثر احتراما من النظم اللاديمقراطية بالمرة والتي تتأرجح بين النظامين ولا تحقق أهداف أحدهما.
ثانيا: إن التناغم بين السياسة الداخلية والدور الإقليمي واحد من لزوميات سيادة الدولة وقدرتها علي تقديم ذاتها للمنطقة التي تعيش فيها وللعالم الذي تتعامل معه بجدية واحترام، ونحن نظن أن السياسة الخارجية امتداد طبيعي للسياسة الداخلية ويجب ألا يكون هناك تناقض بينهما فالحرية في الداخل هي تاج السيادة في الخارج كما أن علاقات الدولة بنظرائها تضع في الاعتبار دائما الضغوط الداخلية والآمال الشعبية وتتحدد أحجام الدول وأوزانها بثقلها الاقتصادي قبل دورها السياسي، من هنا نظن أن تحييد دور السلطة وتغليب برنامج عمل طويل المدي لايتأثر بالمواقف السياسية، يقوم علي خطط واضحة وبرامج مدروسة وسياسات واقعية تمهد لاستراتيجيات بعيدة، إن ذلك هو المدخل الطبيعي للدولة القوية الحديثة.
ثالثا: عندما نكون محصورين داخل الصندوق فإننا لاندرك عاملا خطيرا يجب وضعه في الحسبان وأعني به صراع الأجيال وهو أمر يجب الالتفات إليه وأنا علي يقين من أن جزءا كبيرا من محنة مصر الراهنة وأزمتها الحالية يكمن في غيبة الدور السياسي للشباب، ويجب أن نتأمل رموز الحكم القائم وجبهة الإنقاذ المعارضة لندرك أن معدلات العمر تسقط من حساباتها بشكل واضح عنصر الشباب الذي كان وقود الثورة وركيزة الميدان في الثمانية عشر يوما الأولي لاندلاع انتفاضة ميدان التحرير وهنا أحذر من مواصلة تهميش الشباب وأيضا تهميش المرأة وأخيرا وليس آخرا تهميش الأقباط فمبدأ المواطنة يعني المساواة بين مختلفين في الأعمار والأديان والنوع والثروة وغيرها من أسباب التباين بين البشر.
رابعا: إن عمد الدولة المصرية هي ركائز البقاء والتواصل لدولة ظلت مستمرة علي امتداد آلاف السنين بلا انقطاع وحملت مشاعل النور دون توقف وأضاءت المنطقة حولها، لذلك فإن الحفاظ علي أعمدة مصر من قوات مسلحة وقضاء وشرطة ورصيد موروث من الخبرة والثقافة والتعليم هي كلها أساسات لا يمكن العبث بها أو التفريط فيها.
خامسا: إن مؤرخ الجغرافيا جمال حمدان لم يكن هازلا عندما تحدث عن عبقرية الزمان والمكان بل والسكان أيضا في مصر لذلك يتعين علينا أن ندرك أننا في صراع مع حركة العصر ودورة التقدم ولابد لنا أن نعي دوما أن الحياة كالعوم ضد التيار، التوقف فيه يعني العودة إلي الوراء.
.. هذه أفكار خاطفة أسربها من خارج الصندوق إلي داخله طالبا الرشد فيما نقرر، والحكمة فيما نعمل، والوطنية فيما نحكم!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46166
تاريخ النشر: 30 أبريل 2013
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/207331.aspx