كتب المفكر والفيلسوف العربي البيروني عن الهند مبهورا بما فيها، مندهشا من التناقضات علي أرضها عبر مراحل تاريخها الطويل.
ولقد عشت شخصيا في الهند أربع سنوات(1979 ـ1983) وأيقنت أن تلك الأمة العظيمة يجب ألا تؤخذ ببساطة إذ أن في أعماقها تراكما حضاريا ثريا وفي أحشائها الدر كامنا! وها أنا ذا أستلهم التجربة الهندية وأنا أتابع المشهد السياسي في بلدي والألم يعتصرني والحسرة تعتادني لأننا لم نكن عبر تاريخنا أقل من الهند، بل إن ستينيات القرن الماضي في عصر التعاون الهندي المصري وتأسيس حركة عدم الانحياز فإن علاقات ناصرـ نهرو قد أحدثت نقلة نوعية تمثلت في صنع طائرة مشتركة، كان المصريون يصنعون فيها الموتور بينما يكتفي الهنود بجسم الطائرة الخارجي، ولننظر الآن أين هم وأين نحن؟! إن الكثيرين يتحمسون ـ خصوصا من دعاة التيار الإسلامي ـ للتجربة التركية وهي أبعد ما تكون عن الواقع المصري إذا تأملنا طبيعة الاشتباك بين الدين والسياسة في مصر مقارنة بدولة إسلامية علمانية إذا جاز التعبير وهي جمهورية أتاتورك، بل ربما تكون التجربة الماليزية أقرب إلينا أحيانا من التركية ولكن يبقي النموذج الهندي هو الأكثر نجاحا في عالم اليوم لدولة تشترك معنا في كثير من المشكلات مثل الفقر والأمية والطائفية وثقل الموروث الحضاري وتراكم التقاليد وغرابة العادات، فهذه كلها قواسم مشتركة بين الشعبين المصري والهندي، وإن كنت أعترف بأن المصريين أكثر تجانسا وانسجاما بحكم انصهارهم السكاني وتاريخهم الثقافي، والآن دعنا نقول لماذا يبقي الحلم الهندي طيفا يراودني ويعتادني حينا فحينا، فلنتأمل النقاط التالية:
أولا: إن الهند التي أصبحت دولة نووية ودولة فضاء ودولة صناعية متقدمة ودولة اكتفاء ذاتي في الحبوب الغذائية لأكثر من مليار ومائتي مليون نسمة حتي أصبح يجري تصنيفها بأن لديها رابع اقتصاد في العالم، إن هذه الدولة الضخمة لم تخترع العجلة من جديد ولكنها ألجمت ذاتها بسياسات واضحة وخطط مدروسة وبرامج محددة، ومضت في طريقها بكل جدية لا تحيد عن الطريق ولا تضل السبيل فلم تستسهل سياسة الانفتاح الاستهلاكي ولم ترفع الأسوار الحمائية عن صناعتها الجديدة ولم تندفع وراء الموجات الإعلانية للسلع الخارجية، بل حافظت دائما علي روح الهند وشخصيتها فيما تزرع وما تصنع بل وفي فنونها وآدابها حيث لم تقبل الذوبان في غيرها، وقبل الهنود طواعية أن يعيشوا في ظروف ليس فيها رفاهية الحياة ولا ترف المعيشة ولكن فيها حدا أدني من القبول الطوعي لدي الأغنياء والفقراء علي السواء.
ثانيا: تمتعت الهند بأكبر ديمقراطية في العالم المعاصر، إذ يخرج مئات الملايين للتصويت في الانتخابات البرلمانية علي امتداد شهور ثلاثة في ظل ديمقراطية راسخة ـ رغم الفقر وشيوع الأمية وتخلف التقاليد ـ لكي يعطوا أصواتهم لمن يستحق، إنه الشعب الهندي الذي أسقط رئيسة الوزراء أنديرا غاندي في دائرتها ثم أعادها الي موقعها بعد ذلك بعامين لكي تتقدم الصفوف مرة أخري بعد أن أصلحت أخطاءها وأدركت أسباب رفض الناخبين لها، وهي الديمقراطية الهندية التي أتت برؤساء ثلاثة من الأقلية المسلمة التي تمثل10% من السكان فجاء ذاكر حسين و فخر الدين علي أحمد و أبوبكر عبدالكلام بل والأخطر من ذلك أنها الديمقراطية الرشيدة للدولة العصرية المتفتحة التي جاءت إلي المنصب الأول في الدولة ـ في ظل نظام برلماني برئيس وزراء من أقلية لا تتجاوز2%. فقد سعي الهنود إلي عبقرية اقتصادية من طائفة السيخ لدفع الاقتصاد الهندي في ظل ظروف صعبة ولم يقفوا أمام عقبة الاختلاف في الدين، فالهنود سواء والفيصل هو مبدأ المواطنة الذي يعني المساواة في المراكز القانونية والحقوق السياسية بين المختلفين دينا وجنسا وثروة وعرقا.
ثالثا: إن الهند هي متحف الزمان والمكان وهي بلد المتناقضات، فيها الغني الفاحش كما فيها الفقر المدقع، فيها التعايش المشترك وفيها الفتن الطائفية، حيث تشعر الأغلبية الهندوسية بنوع من الحساسية إزاء التحول التاريخي الذي جاء مع حكم المغول المسلمين حتي أصبحت معظم آثار الهند الباقية هي آثار إسلامية سواء كان ذلك في أجرا أو جيبور أو حيدر أباد أو حتي كشمير، لذلك يوجد لدي الأغلبية وتر تاريخي قد لا يكون قائما في بلد مثل مصر حيث لا يوجد سبب تاريخي للأحداث الطائفية ولكنها فقط موجات من التعصب والتشدد وضيق الأفق والعجز عن فهم الآخر.
رابعا: ليس لدينا في مصر طبقة المهراجات ولا طبقة المنبوذين وإن كان لدينا صراع طبقي مكتوم وصراع أجيال صاخب، وما بين الاثنين تدق نواقيس الخطر ويطل العنف علي المشهد المصري بعد ثورة25 يناير2011، ونحن حين نفكر في تاريخ الدولة الهندية فإننا نضع في الاعتبار أن الهند بلد يسعي للتعاون مع غيره ويفتح أبواب مؤسساته الأكاديمية للآخرين دون تفرقة، ويكفي أن نتذكر أن الجامعة الملية الإسلامية في الهند تقبل المسلمين والهندوس وجميع الطوائف الأخري فالشروط علمية أكاديمية وليست دينية تحكمية.
خامسا: إنني أظن أن النموذج الهندي قابل للتطبيق في مصر بشرط أن يكون لدينا نظام حزبي قوي وإيمان بالديمقراطية الحقيقية وتمرس بأساليبها وإحساس قدري كذلك الذي ينتاب الهنود، فيرفع عنهم الشعور بالظلم نتيجة الإيمان بنظرية تناسخ الأرواح وتبادل الأدوار في الحياة الثانية بين الإنسان والحيوان وبين الفقراء والأغنياء، ولقد آمن المصري القديم بشيء من ذلك ولكنه اتجه إلي التوحيد سابقا البشرية في الوصول إلي تلك الحقيقة، ويكفي أن نتأمل أحد شوارع العاصمة الهندية لنري الأبقار وقد سدت الطريق أحيانا إذ إن لذلك الحيوان قداسة لا تمس حتي ولو شاع سوء التغذية وانتشرت الأوبئة بين الهنود، إلا أن البقرة في الذاكرة الدينية الهندية هي التي أرضعت إله الهنود، لذلك فإن الطواف بالتجربة الهندية العظيمة التي حاول عبد الناصر استلهامها أثناء نزهة نيلية مع جواهر لال نهرو بعدما أسس الأخير المجلس الأعلي للتخطيط ليصبح هو رجل الهند القوي وابنها البار الذي حمل علي كاهله استشراف المستقبل وتشكيل رؤية شاملة لدولة كبري أتطلع لوطني أن يمضي علي طريقها نحو قيام دولة ديمقراطية عصرية حديثة.. هل أحلم؟
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46194
تاريخ النشر: 28 مايو 2013
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/212393.aspx