لا يخالجني شك في أن الدولة الجارة التي أضعنا السبعين عاما الأخيرة في كر وفر معها وسلام وحرب في مواجهتها هي العقل الذي يقف وراء متاعب مصر في أعالي النيل.
إن إسرائيل ـ أيها السادة ـ تسعي لتطويق مصر بدءا من منابع النهر وصولا إلي شبه جزيرة سينا وليس ذلك جديدا، فلقد قالوا منذ البداية إن حدودهم من النيل إلي الفرات وهم لا يقصدون بالضرورة الاحتلال الجغرافي ولكن بالتأكيد يشيرون إلي الاستهداف السياسي، ومصر هي القائدة في الحرب والرائدة في السلام وأكبر دولة عربية وقد وقعت اتفاقية سلام مع إسرائيل منذ26 مارس1979 ولم يكن الأمر سهلا بالنسبة لمصر ورئيسها الراحل أنور السادات إذ دفع الشعب المصري ثمنا غاليا لذلك السلام من علاقاته بأشقائه وهيبته الدولية ودوره الإقليمي، ولكننا للأسف لم نتمكن من توظيف ذلك السلام التعاقدي مع الدولة العبرية لخدمة أهداف السياسة الخارجية لمصر ومصالحها الحيوية وأمنها القومي خصوصا وأنني أظن ـ وليس كل الظن إثما ـ أن موضوع سد النهضة يقتضي تفكيرا غير تقليدي ومن خارج الصندوق، فلغة المصالح هي اللغة الوحيدة المعتمدة في العلاقات الدولية المعاصرة، ولعلي أبسط هنا ما أجملت بعضا منه في هذه المقدمة.
أولا: إننا يجب أن نتحدث مع الإسرائيليين حول العبث الذي يقومون به بين دول أعالي النيل خصوصا إثيوبيا فهم الذين همسوا في آذان أشقائنا الأفارقة قائلين إن العرب تصدروا الموائد في القرن العشرين بسبب النفط وهو هبة الطبيعة من الأرض إليهم، وقد حان الوقت للأفارقة بأن يتصدروا قرن المياه وهي هبة الطبيعة من السماء لهم، ورغم ما في هذه المقارنة من مغالطة إلا أن دول النهر في النهاية متساوية الحقوق بدءا من دول المنبع مرورا بدول المجري وصولا لدولة المصب، لذلك فإن الحقوق التاريخية لمصر في مياه النهر لا تحتاج إلي مراجعة إلا إذا كان الهدف هو زيادة حصتها وفقا لتزايد حجمها السكاني وظروفها الحالية، من هنا فإنني أزعم أنه قد جرت خديعة الجانب المصري عند بداية طرح اتفاقية عنتيبي الإطارية لدول حوض النيل حيث أوهم الجانب الإثيوبي نظراءه المصريين منذ سنوات بأن الاتفاقية الجديدة ستزيد حصة مصر من مياه النهر بينما كان الهدف الحقيقي والمستتر هو إسقاط الحقوق التاريخية لمصر التي حصلت عليها في اتفاقيات سابقة كان آخرها اتفاقية1959 ثم مذكرة التفاهم الموقعة بين الرئيس السابق مبارك و زيناوي عام 1993.
ثانيا: إن إسرائيل وهي لاعب قديم في القارة الإفريقية تدرك أن المياه لمصر هي الحياة وأن الضغط يمكن أن يأتي علي القاهرة من خلال ذلك المورد الطبيعي لدولة كانت ولا تزال هي هبة النيل وإذا كان للإسرائيليين أطماع في مياه النهر فليتحدثوا مع دول المنبع صراحة ودول حوض النهر عموما بدلا من التشجيع الخبيث علي إقامة سدود تبدو فوائدها من ناحية توفير المياه أو توليد الكهرباء أقل بكثير من مشكلاتها ومخاطرها خصوصا أن هناك بدائل كثيرة تدفع التنمية في دول منابع النيل ـ وهو حق لهم ـ بدلا من إيذاء الأشقاء والعبث بحقوق الغير خصوصا وأن قانون الأنهار يلزم كل دول الحوض بالرجوع إلي كل الأطراف قبل الشروع في بناء سدود عند المصب أو المجري تطبيقا للقاعدة الفقهية الخالدة( لا ضرر ولا ضرار).
ثالثا: إن المصالح المتبادلة بين أطراف النزاع هي الطريق الوحيد لحل مشكلة السد وأمثاله عبر القنوات الدبلوماسية، فهناك اقتراح مثلا بفتح طريق بري من الحدود السودانية إلي شاطئ البحر المتوسط وتسمية ميناء مصري لتصدير السلع الإثيوبية والسودانية بدلا من الهضبة المختنقة وميناء سوداني وحيد علي البحر الأحمر هو بور سودان، أما شاطئ المتوسط بالنسبة لهما فسيكون النافذة علي أوروبا والعالم الغربي كله قد لا يكون هذا الاقتراح هو الأفضل ولكننا نفتح به بابا غير تقليدي للتفكير خارج الصندوق!
رابعا: أما آن لنا في مصر أن نفكر بأسلوب دولي معاصر فيه حداثة الآليات وذكاء المبادرات والقدرة علي توظيف الأدوات؟.. إن سلامنا مع إسرائيل يجب توظيفه إيجابيا لصالح مصر كما أن المصالح الإثيوبية والسودانية يجب توظيفها أيضا خصوصا أن الشعوب لا تقتات قومية، ولا تشرب عروبة، ولا تدخن أخوة! إنها فقط المصالح والمصالح وحدها.
خامسا: إن سد النهضة ليس هو المشكلة الوحيدة ولكن هو بداية لسلسلة محتملة من التجاوزات علي منابع النهر بدعوي السيادة الوطنية والمشروعات التنموية علي نحو يكتسب تعاطفا دوليا ويجهض إلي حد كبير الدعاوي المصرية ويقرنها بمفردات مستفزة مثل الغطرسة التاريخية واستحواذ مصر علي نصيب الآخرين! ويكفي أن نتذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية والقطاع الخاص الصيني وكندا وإيطاليا ضمن مجموعة شركات فيها رءوس أموال عربية متحمسة كلها للسد الإثيوبي! وحتي البنك الدولي لم يعد مطبقا بدقة لمعاييره فيما يتصل ببناء السدود علي الأنهار الدولية.
.. إن المشهد يقتضي تفكيرا جديدا خارج الأطر القديمة وقد حان الوقت لتوظف مصر كل آلياتها وإمكاناتها وأدوات دورها من أجل رؤية تختلف عن الواقع البائس الذي نحياه.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46222
تاريخ النشر: 25 يونيو 2013
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/217357.aspx