من الإيجابيات القليلة للحكومة المصرية الجديدة أن يتولي أمر التعليم العالي فيها رجل بقيمة وقامة الدكتور حسام عيسي وأن يكون فوق ذلك نائبا لرئيس الوزراء للعدالة الاجتماعية.
فالرجل مناضل حقيقي من أجل المبادئ التي آمن بها والأفكار التي اعتنقها منذ صدر شبابه فضلا عن أن الوطن المصري يبدو أشد حاجة من أي وقت مضي إلي تكريس قضية العدالة الاجتماعية واحتواء الطبقات الأكثر عددا والأشد فقرا والذين تسلل منهم الألوف إلي اعتصامي رابعة العدوية و ميدان النهضة دون أن يكون لهم انتماء سياسي أو موقف عقائدي ولكنهم اتجهوا إلي هناك لأن الفقر والمرض والجوع قد ضربهم فأصبحوا فريسة لمن يدفع وتلك كارثة كبري علي مستقبل هذا الوطن بحيث يصبح الحديث عن الديمقراطية لغوا أكثر منه حقيقة ومتعة لفظية أكثر منها نظرية سياسية، فالفقر قنبلة موقوتة وهو المفتاح الحقيقي لأزمة الوطن المصري في المشهد الراهن، وعلي الجانب الآخر فإن التعليم هو قضية القضايا والبوابة الوحيدة للمستقبل الأفضل لذلك فإن الربط بين مسألتي إقرار العدالة الاجتماعية من ناحية والنهوض بالتعليم. من ناحية أخري هو تأكيد لتلازم حتمي في ظل مسئولين يضعون أيديهم علي قلب الوطن ويستمعون إلي نبض الفقراء الذين يهرعون بغير وعي إلي ميادين الاعتصام وأيضا صناديق الانتخاب مدفوعين بلسعة الظلم الاجتماعي ومغيبين نتيجة انعدام الوعي ونقص التعليم، لذلك لم يكن غريبا أن ترفع ثورة25 يناير شعار العدالة الاجتماعية وأن تزينها بصور الزعيم الراحل جمال عبدالناصر تذكيرا برجل انحاز إلي الفقراء، واستدعاء للعدالة الغائبة فالظلم هو مفجر الثورات والفقر وثني الدين والسياسة، وقديما قالوا إن الجوع كافر ولعلي أبسط الآن بعض النقاط الإيضاحية.
أولا: كنا نباهي في مصر دائما بأننا نمتلك مجتمعا رائعا ينصهر فيه الأغنياء والفقراء، المسلمون والأقباط، الرجال والنساء، وكنا نعتمد في ذلك علي نظام تعليمي موحد يستوعب كافة الفئات والطوائف والقطاعات، أما الآن فلدينا تعليم مدني وآخر ديني ولدينا تعليم مصري وآخر أجنبي، ولدينا تعليم عام وآخر استثماري وكانت النتيجة أننا أصبحنا أمام مجتمع منقسم علي نفسه، وليست أحداث رابعة و ميدان النهضة إلا نتيجة لتلك التعددية التعليمية المريضة التي تختلف فيها المنطلقات وتتباين الهويات وينعدم الانسجام الاجتماعي بالمرة، لقد كانوا يقولون قديما إن الجندية والتعليم هما الساحتان اللتان تنصهر فيهما المجتمعات وتندمج فئات الشعوب، أما الآن فلم يعد لدينا إلا شرف الجندية الذي لا يفرق بين أبناء الوطن الواحد، بينما أصبح التعليم أداة للتمييز وسببا للتفرقة ومبررا للاختلاف بل والخلاف أيضا.
ثانيا: إننا نكرر من جديد أن التعددية في أنماط التعليم ونظم التدريس هي المسئولة جزئيا عن المشهد الذي نعيشه الآن لأننا نتكلم بأكثر من منطق واحد وفي غيبة حوار مشترك ونتيجة المنطلقات الثقافية المتعددة بل والمتضاربة في أغلب الأحيان لذلك اتسعت المسافة وزادت الهوة بين أطراف الصراع السياسي في الوطن الواحد، حيث توقف البعض عند حدود الثقافة الدينية ـ وهي مطلوبة ـ ولكنه لم يضف إليها روح العصر وعلوم الدنيا التي لا تتعارض مع علوم الدين فأصبحنا أمام مجتمع منقسم علي نفسه في ظل رؤية جزئية لا تري إلا ما تريد! خصوصا أن الإنسان عدو ما لا يعرف.
ثالثا: إنني أظن كثيرا ـ وليس كل الظن إثما ـ أن ما تمر به مصر حاليا إنما هو تعبير عن صراع طبقي مكتوم بينما صراع بين الأجيال يطفو علي السطح أحيانا لذلك فإن حرق الكنائس ومحاصرة أقسام الشرطة وخطف ضباطها هي كلها تصرفات عبثية تؤكد الانفلات الأمني والأخلاقي الذي نعيش فيه حاليا، بينما نحن نريد مجتمعا يسعد فيه الجميع حتي الأغنياء! واضعين في الاعتبار أن المجتمع السوي الذي يقوم علي الصحة النفسية له أهميته ودلالته، فالسلم الطبقي مشوه في بلدنا بالإضافة إلي الهوة الواسعة بين من يملكون ومن لا يملكون فضلا عن الثقة المفقودة والرؤية الغائبة والرفض المتبادل.
رابعا: إن مصر المستقبل لن تفتح بواباته أو تطرق بابه إلا بالتعليم المتميز وشيوع طرائق التربية الحديثة وتعلم أصول الحوار، فالتربية السياسية لا تتحقق إلا من خلال المدرسة والمنزل معا، فضلا عن المناخ الثقافي العام والبيئة الاجتماعية الحاضنة، ويتعين أن ندرك هنا أن التعليم يرتبط علي نحو مباشر بقضايا التشغيل والبحث العلمي لذلك فإن ضبط العملية التعليمية كما وكيفا في ظل معايير العدالة الاجتماعية سوف يؤدي إلي الاهتمام بالتدريب وتأهيل حملة الشهادات بمستوياتها المختلفة علي نحو يتواءم مع الطلب الحالي عليها، ولذلك فإننا لا نبيع وهما عندما نقول إن التعليم هو مفتاح الاستقرار وطريق النهضة في كل نواحي الحياة المصرية.
خامسا: إن الدور الإقليمي والدولي لمصر مرتبط مباشرة بالريادة التعليمية والانتشار الثقافي والقدرة علي تقديم الدولة النموذج رغم كل ما نعانيه أو ما تورطنا فيه، فالدولة المصرية قديمة قدم التاريخ وهي قادرة علي استعادة دورها واحترام مكانتها، ويجب ألا يغيب عن وعينا أن حرمان أطفال الشوارع من العلم هو المسئول الأول عما تعانيه الأسرة المصرية وما تتعرض له المرأة في السنوات الأخيرة من اضطهاد وتهميش وإقصاء.. هذه سطور في تأكيد الارتباط بين النهضة التعليمية والعدالة الاجتماعية رأيت أن أعطيها الأولوية في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها الدول العربية الكبري ذات الأهمية في مواجهة المخاطر العنصرية والتوسعية والعدوانية للدولة العبرية، فالكثيرون حولنا يريدون الشر لنا وليس أمامنا إلا شباب الوطن رصيدا نعتمد عليه ونبدأ معه منذ الطفولة الباكرة لأن أطفال الشوارع اليوم هم بلطجية الغد، وتلك هي المعادلة الصعبة التي يتعين علينا أن نقوم بالتعامل معها حتي تصبح جزءا من الحل وليست جزءا من المشكلة، إن الطريق طويل ولا يخلو من الألغام ولكن مصر سوف تلحق بالركب ربما مثل دولة بدأت معها نقطة الانطلاق في خمسينيات القرن العشرين حتي أصبحت الهند دولة نووية ودولة فضاء ودولة اكتفاء ذاتي في الحبوب الغذائية، فضلا عن أنها تحتوي أكبر ديمقراطية في العالم المعاصر، فأين نحن وأين هم؟ إن الفارق يكمن في التعليم نهوضا له وارتقاء به مهما تكن الظروف ومهما تتكاثر العقبات.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46278
تاريخ النشر: 20 أغسطس 2013
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/227574.aspx